شعار قسم مدونات

قراءة نقدية.. تاريخ انتفاضة 1919 المصرية (4)

blogs ثورة 1919
(مواقع التواصل الاجتماعي)

على إثر عزل الخديوي عباس الثاني الموالي "للدولة العلية العثمانية" صاحبة السيادة الاسمية على مصر وتنصيب حسين كامل سلطانا من قبل المحتل الإنجليزي كان أول عمل للسلطة الجديدة "اضطهاد الوطنيين" الرافضين للحماية البريطانية.

اضطهاد الوطنيين

  • يقول الرافعي تحت هذا العنوان:

"تولت السلطة العرفية حكم البلاد خلال الحرب، فكان أول عمل لها اضطهاد الحزب الوطني ومطاردة رجاله، فضبطت أوراقه ودفاتره وسجلاته، وشتتت شمل أعضائه أو الذين اشتبهت بأنهم من أعضائه أو أنصاره، واعتقلت الكثيرين منهم.. (ذكر المؤرخ عددا كبيرا من الأسماء) ونفت بعضهم إلى مالطة وأوروبا".

لاحظ وصف الرافعي السلطة الجديدة بـ"العرفية"، مما يعني أن إدارة البلاد آلت (تماما) لسلطة الاحتلال، وأن مصر باتت محكومة بـ"الأحكام العرفية" أو الاستثنائية التي تصدر عن المحتل، ولم تعد محكومة بالقوانين المعمول بها، أي أن السلطان الجديد لم يكن يملك من أمره ولا من أمر مصر ولا من أمر شعبها شيئا.

مظاهرة طلبة الحقوق يوم زيارة السلطان حسين

  • يستطرد الرافعي تحت هذا العنوان:

"اعتزم السلطان حسين كامل زيارة معاهد العلم، وزار بعضها، وكان من مظاهر سخط الشباب على الحماية والانقلاب الذي استتبعه (يقصد عزل الخديوي عباس حلمي وتولية الأمير حسين كامل) أنه لما جاء دور زيارته لمدرسة الحقوق اتفق معظم طلبتها على الامتناع عن الحضور في اليوم المحدد لهذه الزيارة السلطانية 18 فبراير سنة 1915، وأنفذوا عزمهم وتغيبوا عن الحضور في ذلك اليوم، فلما جاء السلطان لوحظ فراغ كبير في صفوف الطلبة، فكان هذا الإضراب شبه مظاهرة صامتة ضد الحماية والانقلاب، وقد اهتمت الوزارة للأمر، وأجرت تحقيقا عمن تقع عليهم مسؤولية هذه المظاهرة، وقررت توقيع العقوبات على من تثبت إدانتهم، وقد صدر في مارس عفو عن الطلبة المفصولين والمحرومين من الامتحان، واستثني من هذا العفو 17 طالبا الذين أثبت التحقيق أنهم كانوا المحرضين لزملائهم على التظاهر، وعُفِيَ في السنة الدراسية التالية عن هؤلاء الـ17 طالبا، وعادوا إلى المدرسة".

الملاحَظ هنا "عقلانية العقوبات" الصادرة عن سلطة تعمل بكل مؤسساتها لصالح الاحتلال جهارا نهارا! فصل ثم عفو.. أما سلطات "ما بعد الاستقلال" التي تدعي الوطنية وتزعم أنها جاءت بإرادة الشعب وتحكم باسمه ولصالحه فإنها تنكل بمواطنيها (من الجنسين) المعترضين على سياساتها تنكيلا يصل إلى القتل في الشوارع، أو الإعدام بعد محاكمات هزلية لا يتوفر فيها مثقال ذرة من نزاهة، أو الإخفاء القسري، أو الحبس "الاحتياطي" لأجل غير مسمى، فكم هو مؤسف ومخزٍ أن تكون سلطة الاحتلال أرحم بأبناء البلد المحتل من السلطة "الوطنية" التي تحكم باسم الشعب.

الاعتداء على السلطان حسين كامل

  • يتابع الرافعي تحت هذا العنوان فيقول:

"تجاوز سخط الشعب على الحماية إلى السخط على المغفور له السلطان حسين الذي ارتضى هذا النظام، وفي رأينا أنه وإن كان أخطأ بلا ريب في قبول عرش مصر في ظل الحماية الأجنبية وقَبِل الحماية فعلا إلا أنه كان يعتقد أنه ينقذ بهذا القبول عرش محمد علي ويحفظه لأسرته، ولقد ذاعت الإشاعات في ذلك الحين أن الإنجليز ربما أجلسوا على عرش مصر أميرا من أمراء الهند".

المغفور له السلطان حسين! أسلوب يصلح للحديث عن قريب أو صديق، أما رواية التاريخ فلا، فأنا أفهم أن يدعو الرافعي الإنسان (في صلاته) لشخصية أحبها أو تعاطف معها، وهذا حقه، أما عندما يكتب الرافعي المؤرخ "تاريخ" هذه الشخصية فلا يجوز له استخدام هذا الأسلوب "العاطفي"، ولا سيما أنه لم يستخدمه عند الحديث عن سلفه الخديوي عباس الثاني الموالي للدولة العثمانية التي يكرهها الرافعي لأسباب "قومية"، وهذه "عصيبة" مخلة بالموضوعية يجب أن يتخلى عنها المؤرخ تماما.

هذا الأسلوب "العاطفي" من شأنه أن يترك انطباعا لدى "القارئ العادي" بأن السلطان حسين كامل كان مظلوما أو معذورا عندما قبل تنصيبه سلطانا من جانب سلطة احتلال أجنبي في وجود سلطة (شرعية) يتبعها في إسطنبول.

يقول الرافعي في هذه الفقرة ".. إلا أنه كان (السلطان حسين) يعتقد أنه ينقذ بهذا القبول عرش محمد علي ويحفظه لأسرته"! قالها الرافعي بصيغة التوكيد "أنه كان يعتقد"، ولم يقل مثلا: ربما كان يعتقد، فالسلطان حسين لم يخبر الرافعي (قطعا) بأنه قَبِل اعتلاء العرش في عملية انقلابية على سلفه للحفاظ على عرش محمد علي (الألباني) وبقائه في أسرته، ولا أفهم كيف يمكن للرافعي -وهو المؤرخ- أو لغيره أن يجعل من ظنه أو رأيه "حقيقة مؤكدة" رغم غياب أي "دليل" يثبت هذا الظن، ويجعل منه عقيدة أو حقيقة!

إنه تاريخنا المليء بـ"الحكايات" الذي كتبها الرافعي وغيره، أما ثالثة الأثافي فهي أن السلطة "الوطنية" جعلت منها "حقائق تاريخية" وفرضت تدريسها للأطفال في المدارس فشبُّوا عليها وآمنوا بها، فكانت مثار فخر لهم، وكان من البديهي أن يدافعوا عنها، إنه لأمر مؤسف ومخجل!

  • نتابع مع الرافعي:

"ولقد كان من مظاهر هذا السخط أن اعتُدِيَ عليه (السلطان) مرتين، الأولى بالقاهرة يوم الخميس 8 أبريل سنة 1915، إذ أطلق عليه شاب يدعى محمد خليل تاجر خردوات من المنصورة عيارا ناريا حين مرور موكبه بشارع عابدين، فأخطأ وأصاب العربة التي كانت تقله، ولم يحدث بها سوى ثقوب في جلدها، وقُبض على الجاني وحوكم أمام مجلس عسكري بريطاني، وحُكم عليه بالإعدام شنقا، ونفذ فيه الحكم يوم 24 أبريل سنة 1915".

"وبعد مرور شهرين على هذا الحادث وقع حادث آخر لا يقل شططا ونُكرا عن الاعتداء الأول، ففي يوم الجمعة 9 يوليو سنة 1915 بينما كان السلطان سائرا بموكبه في الإسكندرية قبيل ظهر ذلك اليوم من قصر رأس التين إلى مسجد سيدي عبد الرحمن بن هرمز لأداء فريضة الجمعة ألقيت عليه قنبلة من نافذة أحد المنازل المطلة على شارع رأس التين فسقطت القنبلة على ظهر جواد من جوادي المركبة السلطانية ثم تدحرجت على الأرض ولم تنفجر، وقد استغرق التحقيق في هذه الحادثة زمنا طويلا لغموضها وصعوبة الكشف عن المتآمرين فيها، وأسفر عن اتهام 9 من الشبان بتدبير الحادث (ذكرهم المؤرخ أسماءهم جميعا)، ثم استقر رأي النيابة على إدانة اثنين منهم، وحوكما أمام مجلس عسكري بريطاني، فحكم عليهما بالإعدام شنقا، وصدّق القائد العام للقوات البريطانية السير أرشيلد مري على الحكم، ولكن السلطان حسين طلب تخفيفه، فأبدله القائد العام بالأشغال الشاقة المؤبدة".

هنا، لم يرو الرافعي الحادثتين فحسب كما يجب أن يفعل المؤرخ، بل مرر لنا رأيه في قوله ".. وبعد مرور شهرين على هذا الحادث وقع حادث آخر لا يقل شططا ونكرا عن الاعتداء الأول"! فليس من وظيفة المؤرخ ولا من حقه "إضفاء الألوان" على الواقعة التاريخية بأن يصف عملا ما بالشطط أو بالعقلانية، فالحكم على الواقعة ووصفها هو شأن الدارس والقارئ وليس شأن المؤرخ.

ولا غرابة في ما أقدم عليه الرافعي من وصف الاعتداء على السلطان بالشطط والنُّكر، فهو "يعتقد" أن السلطان المعتدَى عليه "كان يعتقد" أن قبوله اعتلاء العرش خلفا لسلفه المنقلَب عليه كان لإنقاذ عرش محمد علي، وحفاظا في أسرته! أي أن السلطان لم يرتكب عملا يرقى إلى "الخيانة" بقبوله الانقلاب على سلفه المناوئ للمحتل البريطاني الرافض لفرض حمايته على مصر واعتلاء العرش بأمر من المحتل!

وقد لفتني قول الرافعي ".. ولكن السلطان حسين طلب تخفيفه"، أي تخفيف حكم الإعدام، والمفروض أن "يأمر" السلطان ولا "يطلب" كونه سلطانا، لكنه لم يكن له من الأمر شيء في وجود المحتل، ومع ذلك كان يُلقَّب بـ"صاحب العظمة"!

على أي حال، يُحسب للسلطان حسين كامل تخفيف حكم الإعدام عمن استهدفوه فعلا، فقد اعتقل جمال عبد الناصر الآلاف من الإخوان المسلمين وأعدم 6 منهم بعد حادثة المنشية الشهيرة التي شهد حسن التهامي (أحد مستشاري عبد الناصر المقربين وصاحب العلاقة القوية بالمخابرات الأميركية) بأنها كانت مدبرة لإزاحة الإخوان المسلمين والرئيس محمد نجيب من المشهد السياسي، وهو ما حدث فعلا.

هكذا كُتب تاريخنا، ذلك التاريخ الذي تغلغلت في ثناياه "الميوعة" و"المجاملة" و"الكراهية لطرف ما" و"العصبية القومية"، فلم ينج منها حدث من أحداثه، ثم سرت وانتشرت وتغلغلت (عن طريق مناهجنا الدراسية) في تفكيرنا ووجداننا، فأثرت سلبا على تقييمنا للأمور، ولا سيما السياسية منها، وبتنا عاجزين عن التوصيف الصحيح والمنطقي لأوضاعنا، ولا نزال مختلفين حول كيفية تصحيحها أو تغييرها لغياب المعايير الحاكمة.. والسبب، كل هذه "الألوان" التي صبغ بها مؤرخونا صفحات تاريخنا دون حساب، وفي مقدمتهم "شيخ المؤرخين" عبد الرحمن الرافعي غفر الله لي وله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.