شعار قسم مدونات

قراءة نقدية.. تاريخ انتفاضة 1919 المصرية (3)

مدونات - ثورة 1919
ثورة 1919.. (مواقع التواصل الاجتماعي)

نواصل معا -عزيزي القارئ- قراءتنا النقدية لتاريخ انتفاضة 1919 المصرية، الذي دوّنه المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "ثورة 1919.. تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921".

مركز مصر الدولي قبل الحرب العظمى الأولى

  • يقول الرافعي تحت هذا العنوان:

"كان مركز مصر الدولي قبل الحرب العالمية الأولى تحدده معاهدة لندن المبرمة سنة 1840 والتي كانت صكّا دوليا التزمت الدول باحترامه، وأهم أحكام هذه المعاهدة، الاعتراف باستقلال مصر [عن دولة الخلافة العثمانية] المكفول من الدول، وضمان عرش مصر في أسرة محمد علي، ولم يكن يحد من هذا الاستقلال سوى قيد السيادة العثمانية التي قررتها معاهدة لندن، وقد تراخت هذه السيادة مع الزمن، حتى صارت سيادة اسميّة، إذ لم يكن بقي من مظاهرها سوى الجزية السنوية التي التزمت بها مصر حيال تركيا".

[عبارة تستحق الوقوف أمامها طويلا! ففيها من التناقض والمغالطات ما يستخف بالعقول، إذ يقول الرافعي: "وأهم أحكام هذه المعاهدة، الاعتراف باستقلال مصر المكفول من الدول، وضمان عرش مصر في أسرة محمد علي، ولم يكن يحد من هذا الاستقلال سوى قيد السيادة العثمانية التي قررتها معاهدة لندن"! أي أن السيادة العثمانية الاسمية (ولا شيء سواها) هي التي كانت تحد من استقلال مصر! أما جلوس حاكم أجنبي (ألباني) على عرش مصر، وتوريثه لبنيه من بعده، فلا يتعارض مع الاستقلال، في نظر شيخ المؤرخين، ولا يجد فيه أية غضاضة! فهل هذا منطق؟ هل هكذا يُكتب التاريخ؟ ألهذا الحد فقدت الألفاظ دلالاتها عند شيخ المؤرخين؟! أم أن الرافعي قرر منح محمد علي وورثته الجنسية المصرية، فصاروا مصريين، ثم انحاز إليهم، بدافع وطني قومي؟!

في الهامش، أشار الرافعي إلى أن "الجزية السنوية" كانت 750 ألف ليرة عثمانية، بما يعادل وقتذاك 681 ألفا و486 جنيها مصريا.. ولعل الرافعي اختار لفظ "الجزية" اقتناعا منه بأن مصر كانت تحت "الاحتلال العثماني" ولم تكن جزءًا من "دولة الخلافة الإسلامية" أو "الدولة العلية العثمانية" التي كان يقودها السلطان العثماني، كما كان واقع الحال! لكنه لم يفطن (إذا أحسنا الظن بالرجل) إلى دلالة المصطلح الدينية!

فالجزية هي ما يدفعه القُطر أو الإقليم أو الدولة "غير المسلمة" إلى "الدولة الإسلامية" إذا استسلمت لها أو انهزمت أمامها، مقابل حقوق وامتيازات تلتزم بها الدولة الإسلامية، وهي ما يدفعه المواطن غير المسلم إلى "بيت المال" أو "البنك المركزي" في الدولة المسلمة التي يتمتع بمواطنتها، مقابل حمايته وإعفائه من واجبات كثيرة كونه غير مسلم.. فهل يخفى مثل هذا الأمر البديهي، المعلوم بالضرورة، عن الرافعي المحامي قبل الرافعي المؤرخ؟

هل كانت "الدولة العلية العثمانية" تعامل المصريين معاملة (الذِّميين) أهل الكتاب، أو كانوا في نظرها كذلك؟! هل من دليل؟! وإذا كان الحكم العثماني لمصر جائرا وظالما، فهل هذا يبرر للمؤرخ استخدام لفظ "الجزية" للتعبير عن الجور والظلم؟! ألا تزال (عزيزي القارئ) تتذكر قول "ستاندال" الذي أوردته في صدر المقال الأول من هذه السلسة؟ ومن أراد الاستزادة فليقرأ أحكام الجزية].

  • يتابع الرافعي:

"فمصر إذن كانت (من الوجهة الرسمية) مستقلة استقلالا مكفولا بمعاهدة دولية، لا يقيده سوى السيادة الاسميّة التركية، تلك السيادة التي كانت سائرة من نفسها نحو الفناء والزوال، ولم يكن لهذه السيادة مظهر ما أو أثر عملي يحد من الاستقلال إذا قورنت بالامتيازات الأجنبية. ذلك كان مركز مصر الدولي قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن الاحتلال البريطاني قد عصف باستقلالها من سنة 1882، فإلى جانب الاستقلال الرسمي، كان الاحتلال الفعلي، الذي حمل في ثناياه الحماية المقنّعة، وأضحى المعتمَد البريطاني هو الحاكم الحقيقي للبلاد، وخضعت الحكومة الأهلية للسيطرة الإنجليزية، التي استبدت بشؤون البلاد كافة، وحاولت فصل السودان عنها، وألغت الدستور الذي كان قائما قبل الاحتلال".

[تناقض آخر مهين للعقول. ففي الفقرة السابقة، حصَر شيخ المؤرخين سلب استقلال مصر في "السيادة العثمانية الاسمية"، حين قال: "ولم يكن يحد من هذا الاستقلال سوى قيد السيادة العثمانية التي قررتها معاهدة لندن".. ثم عاد ليقول في هذه الفقرة: "ولم يكن لهذه السيادة مظهر ما أو أثر عملي يحد من الاستقلال إذا قورنت بالامتيازات الأجنبية".. أي أن الرافعي يقر بكل وضوح (من حيث لا يدري) بأن "الامتيازات" التي حظي بها الأجانب (حكومات وأفرادا) هي السالب الحقيقي للاستقلال، وليس السيادة العثمانية التي كانت "اسمية"]

إعلان الحماية البريطانية

  • يقول الرافعي تحت هذا العنوان:

"وفي 18 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1914، أعلنت إنجلترا حمايتها على مصر، ونشرت "الوقائع المصرية" في اليوم نفسه إعلان الحماية، وهذا نصه:

"إعلان بوضع بلاد مصر تحت حماية بريطانيا العظمى، يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر إلى حالة الحرب التي سبّبها عمل تركيا، قد وُضِعت بلاد مصر تحت حماية جلالته، وأصبحت من الآن فصاعدا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية. وبذلك قد زالت سيادة تركيا على مصر، وستتخذ حكومة جلالته التدابير اللازمة للدفاع عن مصر، وحماية أهلها ومصالحها".

  • القاهرة في 18 ديسمبر/كانون الأول 1914

[الاستدراك هنا على وزير الخارجية البريطاني الذي يقول: "وبذلك قد زالت سيادة تركيا على مصر"، وعلى الرافعي الذي قال في الفقرة السابقة: "استقلالا. لا يقيده سوى السيادة الاسميّة التركية"! فاسم "تركيا" لم يكن متداولا وقتذاك.. فحتى ذلك التاريخ، كان اسمها "الدولة العليّة العثمانية"، وليس تركيا! ومن ثم، فإن هذا الإعلان هو والعدم سواء، إذ إن الدولة التي يقول بزوال سيادتها عن مصر، ليس لها وجود أصلا! ففي الإعلانات والمراسيم والمكاتبات الرسمية تُستعمل الأسماء والصفات الرسمية، وليس تلك الدراجة على ألسنة العامة]

خلع الخديوي عباس الثاني وتولية السلطان حسين كامل

  • يستطرد الرافعي تحت هذا العنوان:

"في اليوم التالي لإعلان الحماية أعلنت إنجلترا خلع الخديوي عباس الثاني، وتولية الأمير حسين كامل عرش مصر، ونشر إعلان ذلك في الوقائع المصرية يوم 19 ديسمبر/كانون الأول، وهذا نصه:

"إعلان بخلع سمو عباس حلمي باشا عن منصب الخديوية، وارتقاء صاحب العظمة السلطان حسين كامل على عرش السلطنة المصرية، يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق على الانضمام لأعداء الملك، قد رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوية، وقد عُرِض هذا المنصب السامي مع لقب سلطان مصر على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد علي، فقبله".

[وبما أن شيخ المؤرخين لم يعلق على هذا الإعلان الوقح، فأجدني مضطرا للتعليق. "بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق على الانضمام لأعداء الملك"! والمقصود بأعداء الملك هنا (أي ملك بريطانيا) هي "دولة الخلافة العثمانية" التي كان من الطبيعي أن يكون الخديوي عباس منحازا لها، التزاما ببنود معاهدة لندن سنة 1840.. لكنه منطق الاحتلال الذي لا يخضع للمنطق! هكذا كانت تجري الأمور بكل غطرسة وصلف، وإن شئت فقل: فجور! إزاحة حاكم وتنصيب آخر، بأمر مباشر من المحتل، والإعلان عن ذلك في "الجريدة الرسمية" للبلد الواقع تحت الاحتلال!

ومن أسف، فإن تقليد "الإعفاء والتنصيب" لا يزال ساريا في بلادنا، في غياب الشعب الذي يصحو أو ينام على خبر إعفاء فلان وتنصيب علان، وفق "أحكام الدستور"، كما تقول بلاغات أو بيانات "الإعفاء والتنصيب" التي اجتهد قانونيون وسياسيون ولغويون في "رص" كلماتها؛ لتبدو مقنعة للمواطن، ولكن هيهات!]

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.