شعار قسم مدونات

كأس قطر.. ظهور القيم ونشوة المشاعر

مجسم كأس العالم يزين ملاعب المونديال الثمانية قبل كل مباراة (الجزيرة)
مجسم كأس العالم يزين ملاعب المونديال الثمانية قبل كل مباراة (الجزيرة)

أسمح لنفسي ابتداء أن أسمي هذه الكأس "كأس قطر"، فهي بحقٍّ استطاعت حمل هذه الكأس والذود عنها، ولا أتحدث هنا عن البنية التحتية ومتطلبات الأمن للقادمين، بل استطاعت قطر امتصاص الهجمة والانتقال من حارس المرمى إلى اللاعب المُسدِّد، وإبراز قيما جمة؛ من أبرزها القدرة على التصرف في ظل هجمة عاتية ومن غير التنازل عن الثوابت.

والمقصود بالقيم في هذه المقالة الموجزة هو معناها الفلسفي، أي مجموعة الأحكام المعيارية الضابطة للسلوك الجمعي نحو الخير والمتعالية على الزمان والمكان والأشخاص والمنفعة، ومن هذا المنطلق يُفرَّق بينها وبين الأخلاق التي تشترك معها في بعض الأحايين وتنفرد معها من جهتين: من الجهة الفردية والجماعية؛ فالقيم لا تكون فردية بل جماعية، ومن جهة التقابل؛ فالقيم كلها حسنة، فالعدل قيمة بينما الظلم يوصف بالأخلاق ولا يوصف بالقيمة، ومن أبرز منافع القيم أنها توجه فكر الجماعة وسلوكها نحو الإيجابي المشترك.

اكتفي بما سبق ولا أطيل، فليس القصد الوقوف عند هذا المفهوم ومحدِّداته، وإنما مدخل أحببتُ الولوج من خلاله إلى ظهور القيم والمشاعر في هذه الكأس، فقد ظهرت قيم كثيرة تحتاج إلى عناية ونهوض، كما ظهرت عند البعض أخلاق -يسمونها قيما- تحتاج إلى تهذيب وإعادة النظر في مرجعيتها وفي تطبيقاتها.

وهذه القيم مرتبطة بالشعور الذي هو أقرب إلى الحالة النفسية، ومن ذلك شعور التعالي والأستاذية والتعليم والنظرة الدونية للغير، وأنهم هم وحدهم يمثلون المرجعية الصحيحة للقيم والأخلاق، فما يرونه حسنا ينبغي على كل شعوب الأرض أن تراه حسنا، والعكس صحيح، ولو كانت بعض الأخلاقيات تحطُّ من منزلة الإنسان ولا تليق به، ولعلَّ هذا الشعور سرى من خلال نظرة الاحتلال التي قادها آباء تلك الأقوام نحو أرضٍ امتصوا خيراتها وجعلوا أهلها عبيدا.

أمَا علم أولئك أن لشعوب المنطقة دينا وقيما حاكمة على الجميع؟! والعجيب الغريب أن البعض من هؤلاء ومن شخصياتٍ رسمية يجيزون لأنفسهم دعم ما يراه أبناء المنطقة خروجا عن الفِطَر السليمة، وكان الأليق بهؤلاء إنْ لم يمنعهم رادع ديني وأخلاقي وفطري.. أنْ تمنعهم نظرة الازدراء في أعين أصحاب البيت الذي احتضنهم. إنه لمن العجيب أن يأتي إليك ضيف ويفرض عليك شروطه وأخلاقياته، ونوعية الطعام الذي يُقدّم، واللبس الذي يريد منك أن تلبسه، وعليك أن تشعر فوق ذلك بالرضى التام والامتنان لهذا الضيف الثقيل!

قوة السلاح وسيطرة المال والشركات وطول الأجسام وبياض البشرة؛ لا تخوِّل لأصحابها فرض قيمهم على الآخرين والوصاية عليهم، خاصة التعالي على القيم التي جاء بها الوحي، فشتان شتان بين قيم ترفع الإنسان وتصون فكره وعرضه وماله وتجعله متساويا أمام الله وأمام القانون؛ لا فرق بين أبيض وأسود. قيم أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته في يومٍ مشهود يتناسب مع أهمية هذه القيم قائلا: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا ‌لا ‌فضل ‌لعربي ‌على ‌عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى". فشتان بين هذه وبين أخلاق لدى شعوب تجعل عبادة الجنس والدعارة والتعري وتخمير العقل قيما تفرضها على شعوب الأرض.

تلك التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم حُقَّ لها أن تكون مرجعا لحقوق الإنسان، أيُّ خطاب نبوي هذا الذي يتعالى على الزمان والمكان والجنس والمال والقوة؟! أيُّ خطاب هذا ومبدأ القوة ومنطلقها؟! ليس الأمر إلهاما ولا استشرافا إنها النبوة، وسار على منواله صحابته، ولم يكن الاعتناء مقصورا على الإنسان المُكرّم المخلوق، بل وصل إلى الحيوانات، وليس فقط عدم الإيذاء، بل العناية بها، فقد حدثنا التاريخ الإسلامي عن وقف الكلاب الشاردة والقطط التي لا مأوى لها.

ومن الخطأ المقارنة بين بعض الشعوب التي تحمي الكلاب وتعتني بها اليوم، وبين العناية بالحيوان في منظومتنا الفكرية؛ فالكثير من الشعوب التي تُربي الكلاب اليوم تمتص خيرات الشعوب الأخرى لتطعم كلابها، فهو ليس بِرَّا بها وإحسانا بل هو نوع من التعويض عن الرفيق والولد والصديق الذين طحنتهم تلك القيم وبات الولد يضع والديه في مراكز الشيخوخة وقد لا يزورهم، وإن زارهم فيزورهم في أوقات الأعياد المخصصة.

في مقابل هذه الأخلاقيات أو ما يسميها أصحابها قِيَما ظهرت قيم تحتاج إلى عناية ورعاية ونهوض؛ منها قيم الشعور بالذات وعدم الانصياع وراء الآخرين، والشعور بالإمكانات والقدرات من غير تعالٍ، قيم الشعور والحنين للوحدة ضد التفرق، والعدل ضد الظلم، وإكرام الضيف وعدم التخاذل، قيم ترفض بيع العقل مقابل المال والشهرة، وتحافظ على العِرْض مقابل تسليعه.

كما يمكن لهذه الكأس أن تجعل البعض يعيد النظر في التصورات التي يحملها عن الشعوب الأخرى، خاصة اتجاه شعوبنا العربية المسلمة؛ فالصورة السلبية الضبابية المعششة في أذهان الغرب يمكن أن تدفع البعض على مستوى الأفراد إلى التخلي عن النظرة الاستعلائية، فليس ما يعكسه الواقع السياسي الذي حكم علينا الغربُ من خلاله هو واقعٌ تعيشه الشعوب العربية المسلمة.

ليس عندنا عداء مع ألمانيا ولا مع غيرها، ولكن شعورنا الداخلي ونحن نراقب الكأس هفت نفوسنا ومالت وانتشت عندما انتصرت اليابان، وإذا كنا نتحدث عن القيم، فقد ترك لنا اليابانيون قيمة كبرى هي نظافة المكان.

لماذا هذا التطاول الذي لا نجد له مبررا سوى التعالي والشعور بنظافة العِرْق، إنها لكذبة كبرى التي يُرددها البعض حول حقوق الإنسان في قطر في الوقت الذي يتناسى هؤلاء المآسي التي صنعوها بل وما زالوا يغذونها، لِمَ لمْ يقف هؤلاء ليذكروا روسيا التي احتضنت كأس العالم عام 2018 بتاريخها القريب في سوريا، وقبلها أفغانستان و…؟!

أين هذه الدول التي تتظاهر بحقوق الإنسان عندما استضافت فرنسا كأس العالم عام 1998 وقد احتلت فرنسا ما يقرب من نصف الكرة الأرضية وقتلت الملايين من الشعب الجزائري الشقيق؟

أين هذه الحقوق ومعظم هذه الدول التي ترفع هذا الشعارات زرعت هذا السرطان في قلب الوطن العربي وتدعمه بالمال والسلاح والسياسة.

عشنا نشوة المشاعر بتفوق السعودية على الأرجنتين وبالتعادل بين تونس والدانمارك، وليس من معهودي أن أجلس للنظر في المباراة ولكن دوافع عدة تحركت في داخلي لأجلس طيلة المدونة وأنا أتفاعل مع اللعب المتميز الذي قدّمه الفريق السعودي، وحدتنا المشاعر على الرغم من الجراح المثقلة، تلك المشاعر التي افتقدناها منذ زمن بعيد، مشاعر الوحدة والتآلف، فآن الأوان لنشتغل عليها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، على الرغم من المعوقات، وليس غيرنا بأولى بها منّا.

ليس هذا فحسب، بل هاجت الفرحة بانتصار اليابان على ألمانيا، ليس كُرها في ألمانيا لذاتها ولا محبة لشعب اليابان لكونه من اليابان، بل لأن ألمانيا تشكل جزءا من المنظومة الفكرية الغربية التي ترى نفسها الأستاذ المتفوق منذ الولادة الذي يتكرّم في تعليم الشعوب الأخرى، ويعطيها دروسا في القيم.

وفي غالب الظن عندما دخلت بعض الفرق أمام السعودية واليابان وتونس جاءت ظانة أنها نزهة أمام أشخاص لا يعرفون شيئا، وكأن لسان حال بعضهم يقول لو نرسل أولادنا خيرٌ من أن ننافسهم أمام الملأ، فالمنافسة في رأي البعض هي تكريم لهذه الشعوب حتى ولو انهزمت.

فرحتُ بانتصار تونس على فرنسا ليس كرها في فرنسا كشعب، بل بما مارسته سياستها سابقا كدولة استعمارية، وبما يمارسه بعض ساساتها من عنصرية تجاه شعوبنا الإسلامية، هو انتصار -ولو جزئيا في كرة القدم- من دولة كانت محتلة على دولة عُرفت بالاحتلال، ومنه احتلالها تونس.

آن لشعوبنا العربية المسلمة أنْ تستثمر المشاعر الطيبة تجاه بعضها، وآن للشعوب المستضعفة أن تختار الانعتاق من ربقة السيد ليصنعوا لأنفسهم تاريخا مشرقا تسوده قيم العدالة والإخاء والمساواة. لا أدافع عن الكأس لأني أعيش في قطر، فالإنسان الحرُّ لا ينبغي أن يؤجِّر قلمه ويخون ذمته، إنه جزء من الواقعي الإيجابي الذي ذكرته، ويحتاج منا إلى تنمية ومساندة، الكثير من المظاهر التي رافقت هذه "الانطلاقة الكأسية" لو كانت في بعض دولنا العربية الإسلامية لجُرَّ القائمون عليها إلى فروع الأمن وأقبية المخابرات بتُهمة "أسلمة المجتمع وأخْوَنَتِه"؛ وأعني به توزيع الجلباب وغطاء الشعر من قِبَل البعض، وصلاة الجمعة في الفضاء بجوار الملعب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.