شعار قسم مدونات

مونديال قطر قوة ناعمة.. انتصرت في تسويق الإرث المجتمعي والحضاري

الجماهير ترفع علم فلسطين خلال مباراة بكأس العالم في قطر (رويترز)

تحوّل الاهتمام حول العالم إلى قطر التي استضافت أول بطولة كأس عالم لكرة القدم في الشرق الأوسط، رغم أنها أكثر النسخ جدلا، فقد أثبتت قطر أنها جديرة بتنفيذ هذا الحدث العالمي بكل اقتدار، استغرقت 12 عاما من العمل الجاد الذي يهيئ الضبط الدقيق من الناحية التشغيلية لتنفيذه خلال 30 يوما، فتلك السنوات ساعدت في ضبط الخطط الإستراتيجية التنموية للبلاد.

قد نسأل أنفسنا، لماذا أرادت قطر استضافة بطولة كأس العالم، فالإيرادات المتوقعة لا تتجاوز 7.5 مليارات دولار، وهذا حسب تصريحات شركة الأبحاث الاقتصادية البريطانية وتصريحات الدوحة نفسها؛ فماذا عن التحديات التي واجهتها من اتهامات وانتقادات غير عادلة من قبل بعض الدول الأوروبية خلال التحضير للفعالية؟ لماذا قبلت قطر بهذا الصراع من الأساس؟

الفكرة أن قطر لا يهمها الإيراد المالي من كأس العالم بقدر ما يهمها تسويق نفسها للعالم، إضافة إلى تنمية اقتصادها على المدى البعيد؛ وما صرف على البنية التحتية، هو من رؤيتها التنموية، وهذه البطولة قوة تستثمرها قطر في ترويج نفسها أمام 3.5 مليارات شخص حول العالم.

قطر استثمرت بطولة كأس العالم لأنها ليست مجرد رياضة، بل قوة ناعمة تؤثر بها على الشعوب في العالم

البطولة العالمية قوة ناعمة

قطر الرقعة الجغرافية الصغيرة، أثبتت أنها الدولة الأكثر أمانا في الشرق الأوسط، ومن أفضل الدول من حيث السلامة، بلد مضياف يرحب بالجميع. استثمرت بطولة كأس العالم لأنها ليست مجرد رياضة، بل قوة ناعمة تؤثر بها على الشعوب في العالم كما يقول بيل شانكلي: "هي جزء من قوة دبلوماسية ناعمة، يمرر من خلالها ما يريده أصحاب القوة".

هذا المفهوم ظهر خلال الحرب العالمية الثانية، يدل على قدرة الدولة على إعادة تفضيلات شعوب الدول الأخرى من خلال مقومات الجذب التي تمتلكها مسبقا أو تستحدثها دون اللجوء للعنف أو القوة العسكرية، أو الضغوط الاقتصادية.

جوزيف ناي يحدد 3 عوامل رئيسية للقوة الناعمة "القيم السياسية، الدبلوماسية الخارجية، القوة الثقافية"، فهي تقوم بوظيفة تعزيز الصورة الذهنية للدولة المضيفة ومصداقيتها وقدرتها على المنافسة الاقتصادية، فالاستعراض العسكري مثلا لأي دولة يجسد مدى قوتها الدفاعية دون حرب.

ألمانيا عند استضافتها لكأس العالم في 2006 كان هدفها أن تحسن صورتها الذهنية أمام العالم فيما يتعلق بالإرث النازي، كذلك روسيا في 2018 حاولت أن تنسي العالم جرائمها ودعمها للأنظمة المستبدة واحتلالها للدول المجاورة.

فهم مجتمع الشواذ ومن حولهم في الغرب هذه المعادلة فاستغلوا كرة القدم سابقا للترويج لأنفسهم وجعلوا الناس يتقبلونهم ومن يرفضهم هو المنبوذ، وظهر ذلك جليا في الأندية الرياضية الإنجليزية. لكنهم ما زالوا بحاجة إلى حدث رياضي كبير يجعل كل العالم يشاهدهم، فقوة تأثير كرة القدم المحلية محدودة.

أتى الحدث الرياضي الأكبر في قطر الذي شاهده 3.5 مليارات شخص حول العالم كما صرحت الفيفا، أي نصف سكان الكرة الأرضية بكل مكوناتهم الديمغرافية وربما تأثروا بكل ما بهذا الحدث، لكن غاب مجتمع المثلية فيه لأن من قوانين هذه الدولة العربية المسلمة أنها لا تسمح بزواج الشواذ ولا تقبل تصرفاتهم. استاء الغرب جدا حينها، وبدأت تشن حملات إعلامية ضخمة ضد قطر التي استطاعت أن تواجه الكثير من الانتقادات والتبريرات الواهية.

علما بأن هذه الاستضافة كانت بيد الدول العربية المجاورة لأن كثير من المشجعين أقاموا في فنادقها كون المسافة بين هذه الدول وقطر أقرب بكثير من المدن الروسية في مونديال 2018، لذلك استُثمرت لصالح هذه الدول من ناحية اقتصادية، أما من ناحية سياسية فكان إظهار القضية الفلسطينية للعالم، وأخلاقية ليرى العالم تعاملاتنا وأخلاقنا. والأهم أن يدركوا أنهم مهما أنفقوا لحملات ترويجية لأفكارهم غير الأخلاقية فلن يزيدنا ذلك إلا وعيا بمخططاتهم المسمومة.

هذه البطولة كانت مسرحا لاستعراض القيم المجتمعية العربية وأظهرت الهوية العربية الإسلامية التي تحمل الكثير من المعاني الحضارية، كما مورست الطقوس الدينية في وسط مختلف الأعراق والأجناس والأديان

صمود قطر أمام التحديات الأوروبية

على مدى أعوام طويلة يروج أن الشرق الأوسط بؤرة للإرهاب، وبذلك برز دور قطر جليا في صناعة السلام والمساهمة في الحد من انتشار الإرهاب محليا وإقليميا ودوليا.

عندما يأتي الأمر إلى مونديال قطر فنحن نتحدث عن حدث رياضي وهو ما يركز عليه المهتمون وما ركزت عليه قطر عموما، فأتت لها الاتهامات خارج هذا المربع المهم من قبل بعض الجهات الرسمية الأوروبية، لكنها ردت بشجاعة على كل اتهام دون تغافل.

علق بعضهم أن قطر لا تحترم حقوق العاملين بها وأجورهم زهيدة، فعدلت قطر قانون كفالة العمال ووضعت حدا أدنى للأجور، كما فتحت مكتب لمنظمة العدل الدولية في الدوحة، وأتبعوه بأنها لا تقبل بحقوق المثليين لذا لا تستحق هذا التنظيم العالمي، ردت قطر ابتداء أن قضية المثليين لها منصاتها ومنظماتها ووسائلها ووسائطها الأخرى التي من خلالها يمكن مناقشة العديد من القضايا حول العالم على المستوى الاجتماعي، أما هذا فحدث رياضي لنجعله كما هو، فضلا عن أن قطر لها قوانين لا تقبل بهذا الأمر فيجب أن تُحترم عاداتها وتقاليدها وشعبها ودينها.

في وسط هذا الصراع ما بين قطر والغرب والاتهامات والحملات الإعلامية الموجهة ضدها؛ يأتي السؤال هنا: لماذا يصر الغرب على قطر بقبول المثلية؟ الجواب لأن كثير دول الشرق لا تقبل المثلية بل وتعاقب عليها وتبدأ من الغرامة حتى الإعدام، أغلب هذه الدول عربية مسلمة؛ فإذا جعل الغرب هذه الدول تقبل بالمثلية وتعاقب من يرفضه من خلال وسائل متنوعة وأهمها قوة كأس العالم، حينها ستكون السيطرة عليهم سهلة، فإذا أردت أن تهدم مجتمعا عليك بأخلاقه أولا؛ فأخلاق المسلمين قوية، متزنة، محافظة؛ والغرب بيده هذه البطولة فكيف لا يستغلها. المسألة قوة وسيطرة وليست مجرد كرة قدم.

قطر ظلت صامدة أمام هذه التحديات، والنتيجة أن هذه الحملات باءت بالفشل ونجحت قطر، بل انتصرت في مونديالها بنسخة هي الأفضل.

ختاما، نعترف أن هذه البطولة كانت مسرحا لاستعراض القيم المجتمعية العربية، وأظهرت الهوية العربية الإسلامية التي تحمل الكثير من المعاني الحضارية، كما مورست الطقوس الدينية في وسط مختلف الأعراق والأجناس والأديان (صلاة الجمعة في الساحات، احترام الأذان، الدعوة للإسلام كرسالة سماوية سمحة، سجود اللاعبين المسلمين بعد الانتهاء من المباراة كتعبير عن الشكر والحمد).

كذلك ظهرت القيم المجتمعية التي يفتقد بعضها المجتمع الأوروبي، كاحترام الكبير، التكافل الأسري، بر الوالدين، كرم الضيافة، حسن الخلق، إبراز ذوي الاحتياجات الخاصة من منطلق المصلحة المجتمعية المشتركة، ففي أوروبا قديما وتحديدا ألمانيا، أُبيد أكثر من ربع مليون من ذوي الإعاقة، كأحد أدوات الترشيد وعلمنة البنية الاجتماعية البعيدة عن الغايات الإنسانية والأخلاقية.

أدركنا أن التحضر قيمي أكثر منه مادي، فهذا ما أثر ببعض صانعي المحتوى الأوروبيين، أبهرتهم القيم الإنسانية ورحابة الصدر والاعتزاز بالثقافة العربية أكثر من البنية التحتية والعمران، رغم مادية مجتمعاتهم، وكانت قطر نموذجا راقيا بهذا الظهور الحضاري.

الجدير بالذكر أن عدم التنازل بالمبادئ يكسبنا قوة وتمسكا بالحق، بل شجاعة في الصدح به، والاعتزاز بهويتنا يجعل الخصم يحترمنا مهما كانت قوته وسلاحه المادي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.