شعار قسم مدونات

التناغم الثقافي الحضاري في مونديال قطر 2022

مبادرة حيهم للترحيب بضيوف المونديال (الجزيرة)

فازت قطر باحتضان مونديال 2022، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2010، وأصبحت أول دولة عربية وشرق أوسطية تحظى بهذا الشرف، وأشارت بعض وسائل إعلام عالمية أن قطر أضحت مركزا رياضيا وسياسيا واقتصاديا عالميا.

في مونديال قطر 2022، كان التلاقي الحضاري بين الشرق والغرب من شتى الجنسيات أشبه بحوار ثقافي، معقود اللسان، لكنه ثاقب البصر. ينظر أحدهم لأخيه الإنسان فيرى ثمة تشابه بينه وبين من أمامه، الفرحة الغامرة تخرج من القلب، والهتافات تتبخر في عنان السماء مدوية، تاركة وراءها صدى ود، وبريق أمل، ورغبة في التواصل، وشغفًا للتعارف.

إنه لقاء يُعلن ولادة علاقة جديدة بين أفراد الشعوب والأمم، علاقة لا تنظر للصور النمطية المزروعة، بل للواقع الذي أمامها، وللشخص الإنسان الذي يُقابلها، هي علاقة تحاول فهم طباع الشخص الإنسان، وعاداته وتقاليده الموروثة، والآداب الاجتماعية التي يعتمدها، حتى لا نخطئ فهمنا لحقيقته، ولا لسلوكياته، ولا لأفكاره، ولا لتصرفاته.

اجتياز العوائق ما بين الثقافات وتذليلها يُساعد على معرفة الأسباب وراء ما نراه وما نستقبله من الآخر، وبالتالي نعرف كيف نتعامل معه، ونستطيع فهمه بعمق ومنطق، ونتمكن من بناء علاقة إيجابية متبادلة، تبني لا تهدم، وتنفع ولا تضر.

قطر جمعت القريب والبعيد، وحضنت الصديق والغريب، وَوفَّقَت بين القوي والضعيف، على أرضها فرشت "توليفة" ثقافية حضارية، تُعَرِّف الإنسان على أخيه الإنسان، في جو لا يعرف الخلافات ولا الأحقاد ولا النعرات، كُلٌّ يعرض بضاعته ويُعرِّف بنفسه، ويتواصل مع الآخرين، دون خوف من إهانة أو رفض أو تحجيم، وارتقى بنو البشر في مونديال قطر وترفعوا عن السفاسف، والتفوا حول الأرضيات الإنسانية المشتركة، وتلاشت الاختلافات، وطفت على السطح حقيقة الإنسان الطبيعية دون مؤثرات سلبية، وعبَّر الجميع عن فرحتهم بالقدوم إلى قطر، وشاهدناهم يمرحون ويستمتعون بتجربة فريدة قلَّما تتكرر، تجربة مليئة بالإثارة والتعلم والتعارف والمعرفة.

وكان الأجمل والذي عكس قوة قطر وصلابتها، المحافظة على القيم الدينية والأخلاقية، والمبادئ السياسية الثابتة. وقفت قطر بالمرصاد لمنع الجهر بالمعاصي، وألزمت الجميع بقوانين حازمة، وفرضت على الضيوف احترام الشعب القطري ومعتقداته وتقاليده، وتقبلها كما هي، وألهمت الجمهور من كل الشعوب بضرورة أن يحترم كلٌّ الآخر، وخرج أهالي قطر من مواطنين ومقيمين يرحبون بالضيوف ويقدمون القهوة والتمر… "وهَلَّا هَلَّا هَلَّا يلا حيهم أرحبو".

تحت مظلة هذه الأجواء الثقافية الودية التي لم تعهدها مهرجانات المونديال سابقا، التقط الضيوف الرسالة وفهموا الدور الصحيح، وانغمسوا في فعاليات مونديال قطر 2022، كقلوب عطشى، سئم أصحابها من أجواء النزاعات والحروب والصراعات، لتعيش بضعة أيام بسلام وحب وأمان.

فيروسات العداء الحضاري

أثبتت قطر أن معظم خلافات الدول افتعالية، وتعتمد في استقاء معلوماتها من الإعلام الكاذب، والتاريخ المُزوَّر، والخلفيات الثقافية المشوهة والموروثة، والصورة النمطية المزروعة، والافتراضات المسبقة، والأنانية، والطمع، وهذه هي فيروسات العداء الحضاري السبعة.

ويدلنا على هذا أن العالم عندما حضر لقطر لم يجدوا شيئا يستحق النقد أو الخلاف، ولم تترك قطر شيئا يدعو للتحسس أو الاستياء، فأثبتت قطر الحقيقة الساطعة أن بإمكان الشعوب على اختلاف ثقافاتهم، وحتى لو تعارضت مع بعضها بعضا، يمكنهم أن يتعايشوا بسلام في بوتقة واحدة، وعلى قاعدة تبادل الخبرات، والتجارب، والمنافع، والمعرفة.

تلاقي الثقافات والحضارات من أسمى ما يتواصل إليه بنو البشر، وعلامة على التطور والرقي، ولا يقتضي هذا تقمص الآخر وأن يكون إمّعة له، بل هو تعارف، يتقيد بقاعدة المسلمين الأوائل، ما وافق مبادئنا أخذنا به وما تعارض معها تركناه. وتعريف الشخص بنفسه بدأه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما عرض رسالة الإسلام على ملوك وأمراء الفرس والروم. لقد استبدلت قطر في مونديالها 2022 مصطلح "صراع الحضارات" بـ"تناغم الحضارات" وهو مصطلح مشروط بعدم التنازل عن الهوية، وزعزعة مبادئها الأساسية، ومشروط برفض السطوة والكراهية الانتقائية.

وفي هذا السياق، يجدر بنا التنبه لضرورة التجهز والتهيؤ لمثل هذه اللقاءات على المستوى الفردي، وذلك بالتمكن من اللغة الأم بالإضافة للغة أخرى عالمية مُصاحبة، والتدرب على الإجابة عن أسئلة متوقعة -خاصة فيما يتعلق بالأمور الجدلية- من الآخر فيما يخص الهوية والعادات والتقاليد والتاريخ والجغرافيا والدين والبنية السكانية والممارسات الحياتية والثقافة إلى غير ذلك.

وبالمقابل، علينا أن نُكون حصيلة معرفية بسيطة عن بلد الآخر وعاداته وتقاليده، ونُحاول أن نسأله أسئلة مهمة تثير اهتمامه وانتباهه دون حساسية، ونُشعره أننا مهتمون به ونُكن له الاحترام والتقدير، وعلى كل طرف توخي الكلمات اللطيفة المنمقة البعيدة عن وصم الآخر بالنقائص، واستخدام لغة مجردة موضوعية تحليلية لتفهم لا لتوصم وتهجم. كما على كل طرف فهم الاختلافات ولماذا ظهرت ولماذا هي موجودة وكيف. ولعل تمتع أي شخص برغبة قوية لنشر الخير والحب والسلام لهو أشد مدعاة لسلامة الصدر وتناغم الحضارات.

في ظل الانفجار المعرفي، والتقدم السريع والمعقد للتكنولوجيا، أصبح لزاما علينا زيادة معارفنا وفهمنا للآخر حتى لا ننصدم ولا نَصدِم!

وهكذا، بالتدرب على معارف معينة تخص ثقافتنا وثقافة الغير، وبإتقان مهارات التواصل والاتصال، والذكاء الاجتماعي، على الأقل من قبل طرفنا، يصبح جو اللقاء الحضاري "متناغما" بشرط ألاَّ يتسرب إليه فيروسات العداء السبعة المذكورة آنفا.

وحتى يكون الانفتاح الحضاري ناجحا يجب أن يخلو من فيروسات العداء الحضاري، وأن يخلو من أي تأثر حضاري مدسوس وغير مدروس، وأدعو من هذا المنبر إلى أن يخلو "الحوار الثقافي" أو "حوار الحضارات" أو "تناغم/تآلف الحضارات" من أي تسييس أو تسلط أو عنجهية أو تعد أو تكبر أو غرور أو استكبار على الخلق، وأن يتجرد من أي اعتداد، أو سطوة أو استهتار أو استخفاف أو سفسطة أو تعنت أو غطرسة أو عجرفة، وأن يتجنب كل طرف هذه "العقبات" التي تحول دون تنمية العلاقة الجديدة بين الشرق والغرب، وتخمد أي محاولة للتناغم الحضاري.

إن تقمص أي من هذه العقبات أو بمجملها يعيق التواصل المبني على الخير والمحبة والسلام، خاصة إذا كانت مضمرة وكامنة داخل أحد الأطراف ولم يُظهرها فيُغبن الطرف الآخر، ويصبح القوي ضعيفا والضعيف قويا عندما تنقلب الموازين والقواعد والأحكام.

قواعد جديدة

قطر فنَّدت الأكاذيب والافتراءات فعلاً وليس قولاً، ولَبِست قطر ثوب العز والكرامة، ووضعت على رأسها تاج الوحدة والوئام، معلنة قواعد جديدة لـ"لعبة الأمم" تعيد بعض الحسابات لنصابها الصحيح، وتعطي كل ذي حقه، دون عنف ولا تهويش، وبنفس الوقت استطاعت قطر أن توقف آلة السطو والعدوان، والتعدي والافتراء والاستخفاف من أي طرف كان.

وتعاطت قطر مع كل المعطيات بتناقضاتها وتعقيداتها بلباقة ورقي، نطقت به أفواه رموز مونديال قطر 2022، ورفعت سقف معايير مهرجان المونديال، أجزلت وسخت وأجادت، وأتعبت قطر مَن بعدها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.