شعار قسم مدونات

حول اللسان العربي.. وجوب إتقان لغتنا الجميلة

تصميم اللغة العربية
اللغة العربية في مترادفاتها تمثل 20 ضعفا للغة الإنجليزية. (الجزيرة)

لا يستوجب التدقيق اللغوي في كافة الميادين؛ العقدية والإعلامية والأدبية والعلمية والفكرية وغيرها، رصد الهنات والأخطاء فحسب فيما يُقرَأ ويُكتَب ويقال، وإنما يقتضي الحذق والبراعة في مجالات مختلفة نتيجة ممارسة تطبيقية طويلة ومتعددة في معرفة الصياغات التركيبية المتطلبة (معنًى وسبكا وترتيبا وتشكيلا، وأحيانا تقديما سريعا)، وهذا يتحقق أيضا بالإلمام بالنطق الصحيح للأسماء وبعض الكلمات في مجالات معينة، مثلًا كيف تُنطق أسماء كروزِفِلت، وإبراهام لِنكِلِن، والآسِتانة، وهضْبة التِّبِت، ونبات القنّب، ويوسف بن تاشَفين، وطرَفة بن العبد.

وكيف تُنطق كلمات ككَمية، نِظرة، مركِز، معزِل، يُهرع، يُشتهر، قَصص أم قِصص؟ وما الفرق بينهما؟ نأتي إلى نهاية الأخبار، أم نأتي على نهاية الأخبار؟ يوجد أم يتواجد؟ فالتواجد من الوجد! حاجة أم حوجة؟ أقمار صناعية أم اصطناعية؟؛ يقول جل جلاله لسيدنا موسى: (واصطنعتك لنفسي)، فالاصطناع في اللغة بمعنى الاجتباء أو الاصطفاء، أعتذر إليك أم أعتذر منك؟ يقول الله تعالى (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم) صدق الله العظيم.

وهذا التمايز والإثراء يعزى لسعة اللسان العربي وتمدده، فاللغة العربية -على سبيل المثال- في مترادفاتها تمثل 20 ضعفا للغة الإنجليزية!

وصدق الشاعر إذ يقول على حال لسانها الشاكي:

أيهجرني قومي عفا الله عنهم .. إلى لغةٍ لم تتصل برواةِ

سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى .. لعاب الأفاعي في مسير فراتِ؟!

ومن المفارقات المضحكة والمبكية في آن، أن كثيرا من القوم لا يجيدون أبسط قواعد الإملاء، وقد تكشفت حقيقتهم بعدما بدؤوا يكتبون عبر الإعلام الاجتماعي، رغم أن بعضهم حائز على شهادات عليا (فوق الجامعية)! هذا عدا الأخطاء اللغوية نطقا وتداولا كما ألمحنا إلى ذلك في سابق حديثنا عن الأخطاء الشائعة الشائهة والشائنة التي لا يتورع من الوقوع فيها حتى كثير من مشاهير "الإعلاميين" وكبار المسؤولين وبعض المحسوبين على العلم والمعرفة من "الكفاءات"!

نعود للب حديثنا، ففي الإعلام التطبيقي -مثلا- يُفضل أن يكون المدقق اللغوي خبيرا في هذا الميدان، أو مذيعا أو مقدم برامج متميزا سابقا، وسابقا بإنجازاته العملية (التطبيقية) المشهودة على السواء.

وفي مجال التقارير الوثائقية والتحليلية، كذلك ينبغي أن يُختار من خَبِر ذلك ردحا طويلا من الزمن، على مختلف التخصصات، فمثلا لغة البحار وما حوَت، تختلف في -أوجه كثيرة- عن لغة الجبال وما اكتست، واللغة العقَدِيَّة، وكذا الإخبارية؛ السياسية والاقتصادية تختلفان عن اللغة العلمية وفقا لتباين ضروبها، وينطبق ذلك على لغة "المكاتبات" الإدارية، وغيرها.

هذا، ويُفضل أن يكون المرء متضلِّعا في معرفته بمقومات اللغة العربية؛ تحدثا وطلاقة وتحريرا وكتابةً وترجمة وإملاءً، ونحوا، وصياغة، ونطقا صحيحا، وطرحا سلسا ومتسلسلا، وغير ذلك كما أشرنا آنفا.

وفي الحقل الإعلامي التلفازي والإذاعي، في قنوات دولية بوجه خاص، وفي أيامنا هذه تحديدا؛ تكون في بعض الأوقات الأولوية للإعلامي الذي يُتقن الترجمة من الإنجليزية إلى العربية ليتحقق من صحة وصياغة بعض الأخبار العاجلة الواردة من وكالات الأنباء، ومن مدى صدقية البحوث الاستقصائية، خاصة في حالة الضرورة العاجلة للبث أو النشر، فكل كلمة لها ألف حساب وحساب، خاصة في عصر الإعلام الاجتماعي الرقمي هذا، إذ يستوجب التدقيق والتحقيق في ظل زحمة المكاشفة، وشيوع المشاركة، وسرعة الصياغة والنقل، وجرأة التلفيق والتهويل والتطبيل أحيانا! ويتطلب الأمر وجود الإعلامي "الشامل" الذي يبرع في عدة مجالات، وكذلك المُراجع اللغوي الموسوعة.

علمًا بأن المنافسة كبيرة للغاية في طلب الالتحاق بالعمل الإعلامي، حتى من قِبَل ذوي الكفاءات التطبيقية المتعددة والنوعية التي تبدو جليةً -ومنذ الوهلة الأولى- على اللسان، وعلى الإنجازات العملية "المباشرة" على حد سواء، خاصة في مجالات الإعلام الذي يتحرى اللغة الفصحى حتى يصل ما يراد بثه إلى الجميع كما دأبت الحال عليه في اللغة الإنجليزية مثلا التي تترفع عن الدارجة تدويلا وتعميما. وبعدما غدا الإعلام "سلطةً أولى" مُهابة، تشغل الناس كافة، لا سيما أنه يدخل -على نحو من الأنحاء- في كل التخصصات.

ويكفي أن يُختبر المرء للعمل في مجال الإعلام ابتداءً -أحيانا- عبر الهاتف، حيث يطلب إليه أن يتحدث في موضوعٍ ما -على سبيل المثال- ارتجالا لتستبين إمكاناته اللغوية، ومنذ الوهلة الأولى، من براعة الاستهلال، وتخيُّره الكلمات المناسبة، والصياغات الجزلة، هذا عدا سلامة مخارج الحروف من عدمها، والمعرفة التطبيقية الجلية للنحو تحدثا، وقدرته على التحليل والتعليل والتدليل، وغير ذلك، فإن اجتاز الاختبار الأوَّلي يُستدعى إلى المؤسسة الإعلامية ليستكمل المعاينة في قدراته الكتابية والحوارية، والقراءة الصحيحة بالنطق السليم كما أشرنا آنفًا، وغير ذلك من متطلبات العمل على الهواء مباشرة، والتحرير الإخباري وكتابة التقارير والمقالات.

وبعد الاطمئنان على أن بوسعه تطوير إمكاناته مستقبلا، يخضع إلى تأهيل تكميلي عبر التدريب لفترة قصيرة تراعى فيها معالجة ما يفتقر إليه من مهارات كفائية، وهذه أقرب الطرق وأسرعها وصولا إلى العمل المنجز الناجز في ظل ندرة الكفاءات العملية ذات الخبرات المصقولة "الفاعلة المنفعلة" في هذا السبيل.

وقراءة القرآن الكريم بصورة صحيحة، وتشكيل كل حرف من الكلمات في النصوص الأدبية أو الإخبارية من أهم المعايير للوقوف على مقدار القدرات الذاتية التي يتمايز بها المتقدمون لطلبات العمل التلفازي أو الإذاعي أو الصحفي؛ قراءة وتحريرا وتقديما، أو تدقيقا للتقارير والبحوث، والأخير يتطلب كفاءات عركت وخبِرت هذا التخصص ردحا طويلا من الزمن. وينصب تركيزنا على أن الوصول إلى ذلك يستوجب دراية عملية راسخة بمقومات اللغة ذات الصياغات والبنيات التركيبية على تباينها. فالأمر بإيجاز هو اكتساب عملي تصقله وتُعده وتُخرجه الأيام إذا ما توفق المرء في تخصصٍ ما، كهذا الذي يعيننا، وذلك بعدما تتهيأ له الأسباب ويسير سيرا حثيثا في الطريق السليمة لبلوغ المرام، رغم العقبات والعثرات التي تعترض سبيله حتما مقضيا، حيث ينبغي أن يتجاوزها صبرا ومحاولة إثر محاولة، المهم أن تتوافر لديه الرغبة الجامحة والتعلّق بالمهنة، انطلاقا -بثقة وإصرار- من القاعدة الراسخة العلمية والعملية، بعدما ظل يسعى جاهدا إلى توطيدها منذ نشأته، رصدا وتمحيصا وترفيعا.

وما من شك في أن اتقاد الموهبة المفطورة، وتوجيه الأسرة المبكر يلعبان دورا ملموسا في تمكين وتمتين ذلك، خاصة في المجال اللغوي الساحر.

"فليس كل من ركب الجياد بفارس"، كما يقال.

يقول رسولنا الكريم "إن من البيان لسحرا". صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.