شعار قسم مدونات

بين المقالح ودرويش.. رثاء في رحيل الكبار

الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح (يمين) والشاعر الفلسطيني محمود درويش في صنعاء مطلع التسعينيات (مواقع التواصل)

أنا هالكٌ حتماً
فما الداعي إلى تأجيل موتي
جسدي يشيخُ
ومثله لغتي وصوتي
ذهبَ الذين أحبهم
وفقدتُ أسئلتي ووقتي
أنا سائرٌ وسط القبورِ
أفرُّ من صمتي لصمتي.

بهذه الكلمات، كأنما يرثي المقالح نفسه حيا، ويصور سبب المآل في قصيدته "أعلنت يأسي" قبل أن يغادر دنيانا أمس الاثنين (28 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) دون أن ينسى حال وطنه ومرارة واقع بلده ويبدي مخاوفه على صنعاء، وهو الثائر المناضل منذ فجر الجمهورية، ليهتف في القصيدة نفسها:

أنا ليس لي وطنٌ
أفاخر باسمهِ
وأقول حين أراه:
فليحيا الوطن
وطني هو الكلماتُ
والذكرى
وبعضٌ من مرارات الشجنْ
باعوه للمستثمرين وللصوص
وللحروبِ
ومشت على أشلائهِ
زمرُ المناصب والمذاهب
والفتن.

صنعاء
يا بيتاً قديماً
ساكناً في الروح
يا تاريخنا المجروح
والمرسوم في وجه النوافذ
والحجارة
أخشى عليك من القريب
ودونما سببٍ
أخاف عليك منكِ
ومن صراعات الإمارة

==

ولئن غادرنا المقالح تاركا فراغا كبيرا يصعب ملؤه، لواحد من الكبار وربما آخرهم على الصعيد اليمني، غير أنه ترك إرثا أدبيا كبيرا باعتباره رائد القصيدة اليمنية المعاصرة، وترك بصمة ثقافية تنهل منها الأجيال التي تدين له بالأبوة الرمزية، مذ خط مساره في جميع بداياته قبل نصف قرن، بدأها باسم "ابن الشاطئ" ومحاولاته في ديوانه "دموع في الظلام"، وأولى قصائده الموقعة باسمه التي حملت عنوان "من أجل فلسطين" أواسط خمسينيات القرن الماضي، قبل أن تتعزز علاقته بمختلف مناحي الحياة وشجونها وصورها العديدة في شعره وكتاباته في الحب والوطن والثورة والجمهورية وقضايا أمته، وفي مقدمتها فلسطين التي ارتبط مع شاعرها محمود درويش بصداقة، وجمعتهما صنعاء خلال تردد درويش على اليمن في التسعينيات على أكثر تقدير، وحضورهما مناسبات أدبية في مؤسسات رأسها المقالح من بينها مركز الدراسات والبحوث، ليكتب المقالح إلى محمود درويش في الذكرى الثامنة لرحيله:

محمود
قُمْ وانفضْ تراب القبر
واخرج كي ترى
يكفيك يا محمود موتاً
يكفيك نوماً
وانفض تراب الموت
يا محمود
ثم احفر على الجدران
والأبواب:
ماذا بعد؟
إن الطقس حيث تنام
مقبولٌ
وإن الطقس في وطن العروبة
لاهبٌ
يشوي الحجارة والعظامْ،
* * *
محمود..
قم ما زلتَ حياً،
وهنا ثيابك
لم تزل مكويّةً
وأنيقةً
وهناك يا محمود
عند سريرك الخالي
كتابٌ ربما قد كان
آخر ما قرأت
وفي حواشيه كلامٌ
غير مكتملٍ
وأوراق تئن
وتشتكي لسريرك الخالي
من الصمت المخائل
والفراغ
* * *

محمود
صار الليل..
ليل الحزن والآهات
مكتملاً
فقد ضاع الفراتُ
وضاع دجلة
والشحوب يلف وجه النيل
ما أقسى الزمان!
الأرض يا محمود
تنزف
والضحايا من بني الإنسان
يتلو بعضها بعضا
وتأكل بعضها بعضا،
فقمْ، لا تعتذر
فالوقت يستدعي
حضورَكْ
* * *

محمود
قم كثرتْ قضايانا
وما عادت قضيتنا الكبيرةُ
غير جرحٍ غائرٍ
في العمق
عند بقيةٍ ممن يرون
بأنها كانت
وسوف تظل مفتاح القضايا
كلها،
لا دَمّ يا محمود سوف يجفّ
إن بقيت قضيتنا الكبيرة
خارجَ المعنى
وبين مقوساتٍ من كلامٍ
مائعٍ
يغتاله "الخبراء"
عاماً بعد عام
* * *
الناس يا محمود
جوعى خائفون
الخبز شحّ
الأمن شحّ
سماؤنا جفّتْ
وما عادت -كما كانت-
تمد حقولنا ماءً
وصارت -يا لهول الأمر-
تمطرنا جحيماً لاهباً
والأرض ما عادت -كما كانت-
حقولاً تنبت الزيتون
والرمان
بل ميدان حربٍ تزرع القتلى
تعال.. تعال
وانظر ما جرى للأرض
والإنسان
* * *

وكأني بدرويش بعد هذه الرثائية المقالحية يردد بعضا من "الجدارية":

أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض، ريثما أُنهي حديثاً عابراً..
أَرى السماءَ هُنَاك في مُتَناوَلِ الأَيدي
فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي:
"ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟"
ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ، ولا
أَنينَ الخاطئينَ، أَنا وحيدٌ في البياض،
أَنا وحيدُ..
وكأنني قد متُّ قبل الآن..
أَعرفُ هذه الرؤيا، وأًعرفُ أَنني
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ. رُبَّما
ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ ما أُريدُ.
ثم يخاطب صديقه: وحين تموت ففوق ضريحك ينبت قمح جديد.

وبين المقالح ودرويش سفر من العطاء والتفرد والتجديد الشعري لطودين كبيرين رحلا وبقي ثراؤهما حيا في كل حرف وقافية، نردد معه "سنظل نحفر في الجدار" حتى وإن "ذهب الذين تحبهم ذهبوا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.