شعار قسم مدونات

مونديال قطر في ميزان الاستشراق

أمير قطر الحالي بجانب الأمير الوالد خلال حفل افتتاح كأس العالم 2022
أمير قطر بجانب الأمير الوالد خلال حفل افتتاح كأس العالم 2022 (الفرنسية)

مونديال قطر 2022، تحول الحلم إلى حقيقة، أهم حدث رياضي في العالم يقام في قطر أول دولة عربية ومسلمة تستضيف ذلك الحدث الكبير، طبعا ذلك المسار لم يكن سهلا ولم يكن بسيطا للحصول على تلك الجائزة الكبيرة التي سوف يكون لها تحولات كبيرة بالنسبة لقطر في كافة الاتجاهات وعلى رأسها التغيير في النظرة الاستشراقية السائدة في العقل الغربي تجاه منطقة الشرق الأوسط، حيث نمت عقولهم على نمطية معينة مفهومها أن العرب قوم متخلفون ويعيشون في عصور قديمة ولا يعرفون التحضر ولكنهم يملكون النفط والغاز، هذه النظرة قد ظهرت مع بداية المدارس الاستشراقية المختلفة في أوروبا، لا شك أن تلك المدارس ليست ذات المنهاج وذات التوجه وهي تختلف عن بعضها البعض، ولكن في طابع معظمها نظرة فوقية وطبقية تجاه العالم الثالث ونحن جزء من ذلك العالم، ولكن قد يسأل أحدهم: ما الرابط بين الاستشراق ومونديال قطر؟

لقد كان تصريح رئيس الفيفا الحالي جياني إنفانتينو، السويسري الجنسية من أصول إيطالية، صادما بالنسبة للعالم الغربي والعربي أيضا، فلقد طالب جياني الغرب بالاعتذار عما فعلوه طيلة 3 آلاف سنة، لقد قرر الرجل فتح تاريخ أوروبا الطويل الذي كان يسوده السواد والظلام، ثم جاء عصر النهضة والتنوير كي يزيل بعض السواد عن تلك الحقبة المليئة بالتشوهات الإنسانية والحضارية، ولقد نجحت لحد بعيد في التأثير على النظرة العامة في عالمنا العربي، لقد تعرض العالم العربي والإسلامي لحقبة استعمارية واسعة لم تقتصر على الاحتلال العسكري ونهب الثروات، حتى الثقافة لم تسلم من الاستعمار، فلقد تأثر العالم العربي بالتشويه على المستوى التاريخي والتراث وساهم الاستشراق في تلك الهجمة القوية، لقد أصبح المواطن العربي منبهرا بالتقدم الغربي وحقوق الإنسان والمواطنة والمدنية وغيرها من أمور نجحت أوروبا فعليا وتفوقت علينا بأشواط.

سنة 2010 نجحت قطر في استضافة مونديال 2022، ومن هنا بدأت الحملة الغربية الاستشراقية في الضغط على قطر وتشويهها بكافة الوسائل، إما في السياسة وإما في قضايا حقوق الإنسان.

لا شك أن المونديال حدث رياضي عالمي يعشقه مئات الملايين من الناس، ولكنه يحمل في طياته السياسة والعولمة والثقافة الغربية التي تهدف إلى التغريب والتثقيف الناعم للشعوب، ولا شك أن العالم العربي أثبت أنه ليس قادرا حتى الآن على منافسة الغرب من خلال التنافس الرياضي، وهذا التراجع ساهم في تعزيز النظرة الاستشراقية والفوقية تجاه شعوبنا العربية، ولكن استشراق الأمس تغير شكله مع توحش العولمة وأصبح ثقافة عامة وليست محصورة بالنخب والفلاسفة والمفكرين، لقد اجتاحت تلك الثقافة شبابنا حيث أصبحوا لا يثقون بتاريخهم وبتراثهم وبالموروث ولا حتى بالثقافة العربية والإسلامية نفسها، وهذا أثر بطبيعة الحال على عملية تكوين شخصيات أطفالنا وشبابنا وأصبحت هوياتهم متقلبة وضعيفة، وهذه الهوية ساعدت الغرب في هجومهم على قطر، وبسبب قوة الثقافة الاستشراقية، حاولت فرض مساحة للشذوذ والمثلية الجنسية من باب الحريات وتلك الشعارات الفضفاضة.

أما قطر فواجهت تلك الضغوطات بكل قوة واعتزاز بالثقافة التي تنتمي لها، ولقد أثبتت أنها دولة لا تقتصر على قناة النفط والغاز إنما لديها إمكانيات هائلة وكبيرة جدا، ونجاحها في استضافة المونديال يعطي العرب أملا في إمكانيتهم باللحاق بالركب الحضاري على كافة المستويات، ولكن ذلك يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، ولكنه أيضا يحتاج إلى صدق النية والقرار والإرادة والخروج عن التبعية والتركيز على مصالح شعوبنا، فهذه الأمور تحول المستحيل ممكنا.

ما فعلته قطر كان فعلا نموذجيا، فلقد انفتحت ودخلت العولمة من باب السياسة والاقتصاد وحتى رياضيا (موندياليا) ولكنها حافظت على الثقافة العربية والإسلامية وكل الخصوصيات التي تمتاز بها الجزيرة العربية، فلقد أنفقت ما يقارب 200 مليار دولار ضمن خطة 2030  للبنى التحتية من ضمنها الملاعب المخصصة للمونديال.

إن حجم التقنيات التي سوف تستخدم في المونديال القطري يفوق التصور والخيال، وهذا كان تحديا رهيبا خصوصا بعد الأزمة السياسية بين قطر ومحيطها الخليجي والحصار الخانق الذي تعرضت له، رغم كل تلك الضغوط السياسية الرهيبة فإنها أثبتت أنها أقوى من القوى الاستشراقية التي تهدف إلى إفشال كل محاولة عربية لدخول النادي العالمي للحضارة والتطور، حتى في بيئتنا العربية كان الهجوم شرسا ولا يستهان به من خلال الإعلام التابع سياسيا وخصوصا من منطلق الأرقام الخيالية التي دفعتها قطر لهذا المونديال متحججين بأنه كان بإمكانها أن تدفعه في مكان أهم، ولكن هذا النظرة يشوبها القصور في تحليل وقراءة الأمور.

إن استضافة المونديال لا تقتصر على مشاهدة كرة القدم حصرا، فهو حدث له آثاره السياسية والاقتصادية وجلب الاستثمارات العالمية، والأهم هو كسر النمطية الفكرية السائدة تجاه العرب والمسلمين بالجزيرة العربية والشرق الأوسط، هذه هي المعركة الأهم كي نظهر للعالم أن الشعوب العربية لها تاريخ مشرق ومشرف رغم كونه تاريخا إنسانيا فيه الخطأ والصواب، وهذه الشعوب قادرة على النهوض مجددا وأن تكون منارة العالم من جديد دون أن تتعرى من هويتها وثقافتها ومن تراثها، ولكن هذا يحتاج إلى قيادات تتمتع بالرؤية والحكمة والهوية التي تدمج الهويات الفرعية مع الهويات الأساسية في شخصية واحدة.

يعتقد البعض أن الغرب يحاربنا بسبب قراءة القرآن ودخول الناس في الإسلام، والأكيد أن الغرب لا يهمه أن يدخل الناس الإسلام، ففي أوروبا الكثير من المساجد وهي مساحة واسعة لحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية بكل حرية، ولكن الغرب لا يقبل أن نصنع طعامنا وشرابنا وأن ننتج أسلحتنا ونبتكر تكنولوجيا وأن نستضيف المونديال كي لا نكون واجهة عالمية للرياضة.

هذه هي معركتنا الحقيقية مع الغرب.

نجاح قطر في هذا التحدي يعني نجاح كل العرب والمنطقة، وزرع الأمل في نفوسهم، وإننا أمة إذا أردنا استطعنا، فهذه الأمة لديها كل مقومات النجاح ولكنها تحتاج إلى الإرادة الفعلية كي تنجح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.