شعار قسم مدونات

تركيا.. عودة بعد طول انكسار

People gather outside Hagia Sophia Grand Mosque ahead of the May 14 presidential and parliamentary elections, in Istanbul, Turkey May 13, 2023. REUTERS/Dylan Martinez
(رويترز)

من المفارقات العجيبة في سيرورة التاريخ أن تركيا التي تقلصت مساحتها وتراجع دورها، وغرقت في بحر من الديون ووضع اقتصادي مزري، وكُبلت بأغلال اتفاقيات مهينة ومجحفة بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الخلافة العثمانية. هذه الدولة التي عانت عقودا طويلة من ظروف اقتصادية واجتماعية وعسكرية كثيرة ومعقدة، تعود اليوم إلى الواجهة قوة اقتصادية صاعدة، وقوة صناعية واعدة، والأهم كلاعب دبلوماسي مهم في أكثر من ملف إقليمي ودولي.

الغرب الذي تقاسم كعكة إرث العثمانيين وعزف على وتر القومية والإثنية ومزق العالم الإسلامي دولا ودويلات، يخوض اليوم مع نفسه معركة صفرية في أوكرانيا قد تقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة، أكثر تعقيدا من الحروب التقليدية التي شهدتها البشرية سابقا؛ فأدوات الحرب اختلفت وتعددت بين اقتصادية وتقنية وإعلامية ونفسية، تتجاوز رقعتها ساحة المعركة الفعلية؛ أوكرانيا.

تركيا تجني اليوم ثمار صمودها وإصرارها وعزمها على الانبعاث من جديد

الملفت أن تركيا تجني اليوم ثمار صمودها وإصرارها وعزمها على الانبعاث من جديد، وأصبحت قبلة الغربيين، الباحثين عن مخرج لبعض أزماتهم العسكرية والدبلوماسية.

الموقع الجغرافي الإستراتيجي لتركيا هيأ لها مكانة متقدمة للعب دور بارز في الأحداث الجارية، والقيادة التركية التي عملت دون كلل طيلة السنوات الماضية لانتشال تركيا من مستنقع الوضع الاقتصادية المتردي، نجحت حاليا في الاستفادة وانتهاز الفرص لتعزيز مكانتها كقوة صاعدة يمكن الوثوق بها، من خلال انتهاج سياسة ذكية تجيد العزف على الأوتار المتناقضة، ومسك العصا من الوسط، مع التركيز على تحقيق مصالحها القومية أولا، والمساهمة في احتواء النيران المشتعلة في محيطها ثانيا.

فمنذ اندلاع الأزمة في أوكرانيا تعزز دور تركيا؛ فهي تتمتع بعلاقة جيدة مع كييف، وطائراتُها المسيرة تسهم في صمود القوات الأوكرانية على الأرض، وبنفس القوة والمتانة علاقة تركيا مع روسيا، والاتصالات واللقاءات بين الرئيسين أردوغان وبوتين تجري بين الحين والآخر. هذه العلاقة المتوازنة مع طرفي النزاع قد لا ترضي الغرب الذي رفع ثنائية: إما معنا أو ضدنا، لكنه يبدو مرغما على قبول النهج التركي والاستفادة منه لإزالة فتيل بعض العقبات بين الحين والآخر. ولعل أهمها كان أزمة الحبوب، حيث لعبت تركيا دورا مهما وأساسيا إلى جانب الأمم المتحدة؛ وبموجب الاتفاقية أصبحت إسطنبول مقر البعثة المشتركة لتنفيذ الاتفاقية؛ وهذا أكسب أنقرة ثقلا دبلوماسيا أكبر.

أنقرة تستعد اليوم مرة أخرى وبمفردها وانطلاقا من مصالحها الوطنية لإنشاء مركز للغاز الطبيعي الروسي، الذي تعتزم تركيا توصيله إلى أوروبا المهددة بموسم برد قارس ترتعد فرائص عواصمها من تداعياته بعد توقف موسكو عن إمدادها بالوقود

ولئن تماهت تركيا مع الرغبة الدولية لإعادة تصدير الحبوب الأوكرانية وتجنيب العالم شبح مجاعة بسبب ندرة المواد الغذائية، فإن أنقرة تستعد اليوم مرة أخرى وبمفردها وانطلاقا من مصالحها الوطنية لإنشاء مركز للغاز الطبيعي الروسي، الذي تعتزم تركيا توصيله إلى أوروبا المهددة بموسم برد قارس ترتعد فرائص عواصمها من تداعياته بعد توقف موسكو عن إمدادها بالوقود. وهنا تتقاطع مصالح أنقرة لتحقيق مكاسب اقتصادية بالدرجة الأولى، ودبلوماسية بمستوى أقل، تتقاطع مع رغبة موسكو الباحثة عن مخارج للالتفاف على العقوبات الغربية، وتسويق غازها الطبيعي.

وبعيدا عن أزمة أوكرانيا ودور تركيا البارز في إيجاد مفتاح حل لها، فإن تركيا حققت قفزات اقتصادية وصناعية خلال السنوات الماضية، وتحررت من ديون المؤسسات المالية الدولية؛ محاولة شق طريقها نحو الاكتفاء الذاتي، ومد جسور التبادل التجاري لأكثر من 200 دولة حول العالم، كما ارتفع حجم صادراتها إلى الخارج من 36 مليار دولار إلى 250 مليارا في الوقت الحالي.

ولعل من أكبر إنجازات تركيا -حسب قيادتها- هو اكتشاف الغاز الطبيعي في البحر الأسود بمقدار 540 مليار قدم مكعبة، وثمة أمل لدى الأتراك في اكتشافات جديدة في مجال الطاقة، ستمكنها من الانضمام إلى نادي الدول المنتجة للطاقة.

وعودا على بدء، فإن تركيا التي اكتوت بنيران الحرب العالمية الأولى، وفقدت قوتها ومكانتها، ومن ورائها العالم الإسلامي أجمع؛ تعود اليوم أقوى وأشد صلابة مما كانت، وتسهم في وقف سيل الدماء المتدفقة في البيت الغربي، الذي أطاح بها قبل 99 عاما. "الرجل المريض" عاد بعد أن تماثل للشفاء، وها هو يحاول استعادة جزء من هيبته ومكانته المسلوبة، متكئا على إرث تاريخي عريق، صقلته التجارب والمحن، علَّ القدر يبتسم له ويعوضه سنوات الانحطاط، وأن يمحوا من جبينه عار الهزيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.