شعار قسم مدونات

أشياء من الذاكرة.. قتلُ الشاعر

Omran Abdullah - ماركيز.. الصحفي الذي عشقته الرواية، الجزيرة  - جارسيا ماركيز صحفياً سحرياً في "فضيحة القرن"
الأديب والصحفي جارسيا ماركيز (الجزيرة)

لا أتذكر أين قرأت أن كل تجربة صحفية متميزة يكون خلفها موهبة في الأدب والفن، لكن هذا يبدو واقعيا فكثير من الأدباء والكتاب العالميين مثل الروائي العالمي جارسيا ماركيز الذي يمثل إحدى التجارب المهمة للعلاقة بين الصحافة والأدب، فقد بدأ العمل صحفيا ثم اشتهر روائيا، وكان واضحا تأثر أدبه ورواياته بكونه صحفي.

هناك أسماء لا حصر لها في هذا المجال شرقا وغربا، فقد كانت أول بداية لمحمد حسنين هيكل الصحفي المصري الشهير قبل أن يصبح كاتبا للقصة القصيرة في إحدى المجلات المصرية وتظهر مهاراته الأدبية عندما يتحدث، إذ تجد استشهادات لا حصر لها من الأدب والشعر، وهو ما يضيف للسرد وللكتابة وقعا جميلا.

والحيز هنا ليس للحديث عن الأدباء الصحفيين أو الصحفيين الأدباء.

هذا عالم لا يشبه الشعر، فالشعر والأدب مجاوزة في كل شيء، حيث اللغة بلا سقف ولا كوابح أو ضوابط

ومن بوابة الأدب ذهبت إلى الصحافة، ولا أتذكر أني عندما تحولت إلى العمل في الصحافة التلفزيونية عام 2004 بشكل نهائي أن أحدا من الناس كان يخال أن شاعرا سينجح في العمل الميداني ويتنقل بلوغو قناة إخبارية بين مناطق اليمن وريفها ومدنها ليغطي أخبارها الساخنة، ومنها ما هو ميداني وعسكري واقتصادي واجتماعي وسياسي وقبلي وكل ما تعج به اليمن من ثراء ومن فوضى.

لكن كيف قررت أن أقتل الشاعر في داخلي أو أن أزيحه جانبا وقد كنت اسما يصعد في عالم الشعر التسعيني اليمني منذ بداية مراهقتي وكتاباتي الأولى وكيف دخلت عالم الأخبار النكد والمتابعات بكل ما فيه من مفارقات وصعوبات؟

لقد استغرق الأمر وقتا طويلا لأقرر كيف أغادر مملكة الشعر التي تبين لي أو هكذا قدرت أنها عالم لا يوازي بالضبط الحياة التي يريد شخص مثلي أن ينخرط فيها، فلا توفر بلداننا العربية لشاعر ولا لروائي ولا لفنان حياة كريمة، بل إنها على العكس من ذلك.

ولا أعتقد أن هناك أديبا في عالمنا العربي يعتاش من كتاباته، وربما من يفعلون ذلك أقل من عدد الأصابع حاليا، وهذا استثناء.

لم أنس الشعر والأدب نهائيا لكن انشغالات الصحافة وعوالم الإعلام المرئي وشواغل السياسة وتبعاتها تلهيك تماما، فالأحداث تربك لغتك وتخصم من رصيدك الفني واللغوي وتحولك إلى آلة لعد الأخبار واصطيادها، وقد كنتَ تصطاد باللغة العصافير والفراشات، وشتان بين المهنتين رغم أنهما كما يبدو خرجا من مشكاة واحدة.

إذن فهي مغالبة -ولا شك- بين اثنين في داخلك؛ شاعر وصحفي، يريد الصحفي أن يستخدم لغة الصحافة التي تخبر ولا تصف وتنقل الوقائع ولا تجملها، لكن في نفس الوقت فإن بعضا مما لديك من الأدب سيسعفك وأنت تختم تقريرك بجملة قوية أو تكتب للصورة، وهذا ما يجعل المشاهد يشعر باختلافك، والمشاهد العربي أذنه موسيقية وحساسة ويحب الطربيات والجمل الأدبية، لكن عليك أن تحافظ على مسافة جيدة بين ممتلكاتك اللغوية ورواياتك الصحفية.

لم أنس الشعر والأدب نهائيا لكن انشغالات الصحافة وعوالم الإعلام المرئي وشواغل السياسة وتبعاتها تلهيك تماما

لم أجد سبيلا لاستخدام لغتي الأدبية في تقاريري وأعمالي الوثائقية التلفزيونية، أو لم يتح لي ذلك، فأنت تدخل هذا المجال بإرث ثقيل من الممنوعات التي سطرت منذ بداية العمل الصحفي في العالم، من قبيل "أنت ناقل ولست مشاركا في الحدث"، والمعايير التحريرية والمهنية التي تفرض عليك الانتباه تماما لما تكتب وما تقول على الهواء، والعمل في الأخبار اليومية وفي شأن يتصل بشؤون العالم الإخبارية يراكم خبرتك ومعلوماتك ويخرجك من دائرة اللغة إلى دائرة الحدث، حيث الاختصار والحذف والخبر السريع الذي لا تزيد مدة قراءته على 20 ثانية أو أقل، وحيث يفرض عليك العمل المهني الدقة في اللغة وعدم الإيهام وتجنب التشبيه والمبالغات والالتزام بالمفردات والمصطلحات حرفيا كما جاء في قواعد السلوك المهني والتحريري، لا تنحاز لأحد ولا تنفخ الروح في فكرة أو جماعة أو حدث.

هذا عالم لا يشبه الشعر، فالشعر والأدب مجاوزة في كل شيء، حيث اللغة بلا سقف ولا كوابح أو ضوابط، لديك حرية للتعبير والتشبيه وانتقاء الكلمات والسباحة في فضاء اللغة وعوالمها عاشقا وغاضبا ومحبا وكارها وفتى أحلام، فما بالك وأنت ترسف في قيود المعايير والمصطلحات التي سطرت منذ أول يوم كتبت فيه معايير العمل المهني في العالم.

ما من خيار سوى أن تقتل الشاعر، وقد كان!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.