شعار قسم مدونات

أزمة البديل السياسي العراقي

صورة من البرلمان العراقي - المصدر: وكالة الأنباء العراقية
البرلمان العراقي (وكالة الأنباء العراقية)

يعدّ موضوع البديل السياسي عبر ممارسة الحقوق السياسية للمواطن ومخرجات هذه الممارسة من التفاصيل والسمات البارزة في النظم الديمقراطية، فقد بانت أزمة البديل العراقي بعد انهيار النظام السياسي العراقي السابق المتمثل بالحزب الواحد الذي بدوره لم يسمح بوجود معارضة وأحزاب منافسة فعليا أو حركات اجتماعية أو آراء تختلف عن المنظومة التي تدير النظام آنذاك وعبر زمن طويل امتد منذ ثورة 1968 حتى انهياره بعد سيطرة القوات الأميركية والحليفة على العراق عام 2003، الأمر الذي جعل كل مواطن يفكر بالتعايش مع وجود هذا النظام بدلًا من معارضته ولأسباب كثيرة، وهذا السلوك العام الاجتماعي قد أدى لاحقًا إلى عدم التفكير بخلق معارضة لكل ما هو سائد مهما كان نوعه.

وعلى الرغم من النظام الديمقراطي في الحقبة الجديدة للنظام السياسي العراقي، فإن المواطن لم يفق من هذه المحنة النفسية حتى وصل ذلك الأمر بعد 2003 إلى نسيان مصطلح المعارضة رغم الدمار والأخطاء التي يخلفها الأداء السياسي، بل وصل إلى شيوع ثقافة فعلية وواقعية معروفة في الأوساط الاجتماعية العراقية وهي مسألة اختيار أفضل السيئين أفضل من تجربة أصحاب الشعارات والبرامج والانتماءات الجديدة، وهذه بحد ذاتها محنة سياسية واجتماعية ونفسية عامة.

لو دققنا في أوضاع العراق بعد انهيار النظام السياسي السابق سنفهم طبيعة الصراع الفعلي لأقطاب الجموع البشرية التي تمارس الحقوق السياسية وتمتلك ممثلين عنها في مفاصل الدولة

ولو دققنا في أوضاع العراق بعد انهيار النظام السياسي السابق سنفهم طبيعة الصراع الفعلي لأقطاب الجموع البشرية التي تمارس الحقوق السياسية وتمتلك ممثلين عنها في مفاصل الدولة، وهي مقسمة إلى فئتين كبيرتين هما: الجماعات القومية التي تحمل القومية راية فوق كل ميولها وقيمها، والجماعات الإسلامية التي تعتدّ بالخطاب الإسلامي والمنهج الدعائي الديني والطائفي لها طريقا إلى السلطة. فأما القومية فتبرز في المناطق الكردية على وجه الخصوص وتتصاعد دعواتها من حين لآخر في مناطق السنّة والشيعة أثناء الأزمات، وأما الجماعات الإسلامية فهي مقسمة إلى جماعات شيعية وجماعات سنية موزعة على محافظات محددة تمثل كليا هذه الجماعات اجتماعيا وسياسيا عدا محافظة بغداد المقسمة بدورها إلى مناطق سنّية وشيعية جرى عليها التجريف والعزل الاجتماعي، ليضمن بذلك كل مكون مناطقه التي تخلو من مواطني المكون الآخر ومن ثم يضمن تمثيلا من دون خلط قومي أو ديني أو طائفي.

يضع هذا التقسيم العام ممثليه بعد كل دورة انتخابية في نواب مقسمين إلى كرد قوميين ومسلمين سنة وشيعة يتداولون فيما بينهم الحصص الإدارية من النظام السياسي عبر الأعداد المخصصة لكل مكون من المقاعد البرلمانية، وجرت هذه العادة على عرف سياسي مرسوم للمناصب العليا يمثل به منصب رئيس البرلمان من الطائفة السنية ورئيس الجمهورية من القومية الكردية ورئيس الوزراء من الطائفة الشيعية وبقية المناصب تتداولها الكتل فيما بينها حسب التفاهمات والعدد النيابي والقرب والبعد من المكونات الأخرى.

وتعد هذه أول عقبة حقيقية تجعل كل فئة من هذه الفئات تقاتل في سبيل ألا تخترقها الفئات الأخرى أو فئات مغايرة. ولذلك فإن الأحزاب الكردية بالمجمل المتفقة والمتعارضة فيما بينها تتفق على القضية القومية ومصالح الشعب الكردي فوق كل الاعتبارات، ولا تسمح بكسر النسق القومي لها، ولا تساوم على أصل القضية الكردية وحصة الإقليم من الموازنة الاتحادية وبقية التفاصيل الخاصة بالمنافذ الحدودية والمناطق المتنازع عليها مع الحكومة المركزية، أما الأحزاب السنية فتتدافع فيما بينها من أجل قضية من سيكون رئيس البرلمان ويتم توزيع الحصص داخليا بتوازن محسوب في ضوء ميزان القوى السنية، والأحزاب الشيعية كذلك تشهد شدا وجذبا ولكنها في النهاية مهما كانت شعاراتها تؤمن بأن رئاسة الوزراء والجزء الأكبر من النظام السياسي باسم الطائفة الشيعية نسبة إلى عدد مقاعدها في البرلمان.

يستمر الاعتراض العراقي على شكل ونوع وطريقة إدارة النظام السياسي ولكن لا توجد مشاريع تواجه مشروع إدارة الدولة

داخليا وفي كل فئة قومية وإسلامية، هنالك قمع وقتل وتشريد وتجريف لأي محاولة لاختراقها؛ فلم يشهد العراق أحزابا علمانية أو ليبرالية مثلًا شريكة ومؤثرة في المشهد العام للبلد عدا وجود اليسار العراقي الذي ابتلعته الأحزاب الإسلامية والأحزاب القومية ولم يكن له تأثير سياسي مطلقًا.

وبعد أحداث دخول العراق في أزمة ضياع الدولة عام 2014 وصراعه الكبير مع التنظيمات المسلحة، كانت هنالك استفاقة واعتراض واقعي من قبل فئات كبيرة من المجتمع، ومن ثم عصفت بالبلد موجة ضخمة من المظاهرات والاعتصامات شكّلت البداية للاعتراض الفعلي وكانت أبرز ملامحها مقاطعة انتخابات عام 2018، وهي بذلك تشكل أول علامة رسمية ورد فعل اجتماعي جماعي لقطيعة واضحة بين الشعب والنظام السياسي عبر عدم الاشتراك في الانتخابات التي بدورها أفرزت برلمانا صوّت لمصلحة حكومة عادل عبد المهدي الذي لم يصمد وحكومته أمام الثورة والاعتراض الكبير في أكتوبر/تشرين الأول 2019 الذي واجهته حكومته بالقمع والقتل وبعد ذلك قدم استقالته، لنشهد بذلك أول مواجهة بين النظام السياسي الحديث والشعب بصورة رسمية وواضحة.

ورغم ذلك الاعتراض والتضحيات الجسيمة لإحلال بديل سياسي والمطالبة به في تشرين وما بعده، لم تتشكل أي علامة واضحة لبديل سياسي وطني فعلي يخترق منظومة الإسلام السياسي أو الفكرة القومية، فقد كانت الأفكار تتجه لإصلاح الأصول الإسلامية والقومية ذاتها والتي تدير اللعبة والنظام السياسي بصورة عامة في البلد، ولم تكن هنالك فئات مختلفة ومشاريع واقعية وحتى تلك المتعلقة بالفئات الجديدة التي أفرزها الحراك العام فهي تكتفي بحمل الشعارات من دون مشاريع وتدافع عنها، وهذا لا يمثل بديلا سياسيا قطعًا.

يستمر الاعتراض العراقي على شكل ونوع وطريقة إدارة النظام السياسي ولكن لا توجد مشاريع تواجه مشروع إدارة الدولة، بل الأسوأ أن هنالك أزمة لاستنزاف مدلولات للبديل السياسي مثل العلمانية والليبرالية وحتى المدنية من خلال مشاريع معظم جماعتها إسلاميون وقوميون لا يمكنهم التحرر من هذه الأصول لأسباب اجتماعية وأمنية وفكرية، وفضلًا عن ذلك إيمان هذه الجماعات المطلق بأنه لا يمكن معاكسة الجمهور العام المتأثر بإعلام النظام ومؤسساته وتعتمد معيشته كليا على بقاء نوع هذا النظام، فلا يمكن معاكسة الإسلام السياسي لأن ذلك يشكل هاجسًا خطيرًا يتمثل بدعاية على مستوى الطائفة الشيعية تنص على أن لا بديل عن تشيع النظام وأي فكرة أخرى تمثل العودة إلى صندوق ما قبل 2003، وهذا الموضوع هو ما يبرر عدم الإمكانية أو الجرأة لإنتاج بديل عن فئة الإسلام السياسي الشيعي. أما الطائفة السنية فكذلك تمتلك دعاية تتمثل بعدم المهادنة على مناصب حصة المكون السني لأن ذلك يؤدي إلى تسليم المناطق السنية وإداراتها إلى منافسيهم من الكرد أو الشيعة، وهذه الدعاية مصحوبة بقمع ممنهج لكل الأصوات التي تريد اختراق هذه القصة.

يجب على من يحملون راية التغيير صناعة الجو الاجتماعي العام من خلال إدارة الراي العام لصناعة مساحة للقبول بهذه المشاريع

أما الجانب الكردي فيضع المقصلة أمام كل من يخرق قصة الدولة الكردية المتمثلة بالقومية الكردية وعزلتها الاجتماعية والسياسية عن العراق؛ فقد وصلت به المرحلة إلى اعتقال نواب كرد في البرلمان العراقي بسبب المنهج الجديد لحزب الجيل الجديد الذي يتفق على مجمل الخطوط العامة مع القوى الكردية وشعاراتها ويختلف في التفاصيل.

ولغرض صياغة بديل حقيقي يتجاوز أزمة صناعة البديل العراقي يتعين الآتي:

  • الابتعاد عن تحوير مفهوم الثورة أو الاحتجاج أو الإصلاح للنظام كبديل سياسي جذري، لأن هذه مواضيع خطرة تغرق مفهوم إنتاج البديل بضياع كبير لا نهاية له وكذلك تصعب من إنتاج بديل بسبب استنزاف مفهوم البديل.
  • صياغة مشاريع واقعية ولو كانت مكلفة من ناحية المواجهة وبمسؤولية ضخمة سواء كانت مشاريع ليبرالية أو غيرها من الاتجاهات المختلفة عن اتجاهات النظام السياسي العراقي.
  • يجب على من يحملون راية التغيير صناعة الجو الاجتماعي العام من خلال إدارة الراي العام لصناعة مساحة للقبول بهذه المشاريع.

لكن ما يعقد هذه العملية في العراق بالدرجة الأولى هو تماهي النظام السياسي مع حاملي السلاح المنفلت والسماح لهم بمعاقبة كل فرد عراقي معترض ومختلف عوضًا عن قانون الدولة، وما يعقد صناعة البديل أيضًا هو ضعف التنظير المعاكس أو المغاير للمنظومة، فلا الاعتراض يكفي ولا الثورة وعدد الجثث يكفي لصياغة مشروع بديل يساير أو يخترق النظام السياسي ويكون جاهزا لإدارته.

وما يميز العراق حاليا هو الاختلاف الكبير بين جيل الآباء وجيل الأبناء من ناحية النظرة الشمولية إلى الأوضاع ولغة الحوار الوطني والشعور العام الذي لا يغلق نفسه على زاوية عنصرية أو طائفية أو غيرها لدى جيل الأبناء، وهذه تعدّ من علامات المستقبل الجيد في حال تم استغلال هذه الأدوات والزجّ بها بمشاريع إستراتيجية تستطيع مقاومة النظام السياسي الحالي ومجابهته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.