شعار قسم مدونات

لماذا لا تملك "العدل الدولية" إجابة قاطعة حول السلاح النووي؟

تصميم نووي بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (الجزيرة)

ترددت في الأيام الماضية أصداء تصريحات للقادة الروس وفي مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي حذر بأن بلاده قد تجد نفسها مضطرة للجوء للسلاح النووي، في خضم الحرب التي تدور رحاها منذ فبراير/شباط الماضي على الأراضي الأوكرانية. وقد أثارت تهديدات الرئيس بوتين بشأن إمكانية اللجوء إلى استخدام السلاح النووي مخاوف كبيرة على مستوى العالم من أن تقدم القيادة الروسية على هذه الخطوة الخطيرة، لتفادي هزيمة مذلة في مواجهة الهجوم الأوكراني المضاد والمدعوم غربيًا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو عن مدى شرعية التهديد باستخدام السلاح النووي أو اللجوء إلى استعماله من منظور القانون الدولي.

لا يخفى على أحد الأضرار الجسيمة التي تسببها الأسلحة النووية، باعتبارها أخطر الأسلحة على وجه الأرض، وذلك لما لها من قدرة تدميرية عالية، وأن بإمكانها قتل ملايين الأشخاص في دقائق معدودة وتعريض البيئة الطبيعية لأخطار تلوث شديد تستمر لعقود طويلة. وبالنظر إلى الخطورة الكبيرة لهذه الأسلحة، سعى العالم إلى الحد من امتلاكها، فتم التوقيع على عدة اتفاقيات دولية، التي كان من بينها مثلًا التوقيع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1968.

هناك دول كبرى تمتلك ترسانة نووية ضخمة ولا ترغب طواعية في التخلي عنها أو في أن يوصف امتلاكها لها بأنه غير شرعي من منظور القانون الدولي

محكمة العدل الدولية وشرعية التهديد باستخدام الأسلحة النووية

وفي ما يتعلق بمسألة شرعية التهديد باستخدام الأسلحة النووية أو اللجوء إلى استعمالها، فإنه ينبغي القول إن محكمة العدل الدولية قد أجابت عن هذا السؤال في رأيها الاستشاري الصادر في الثامن من يوليو/تموز 1996، وذلك بناء على طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الخصوص. ونحن وإن كنا لا نسعى في هذا المقال الموجز إلى شرح وتحليل الرأي الصادر عن محكمة العدل الدولية في هذه المسألة الشديدة الخطورة والحساسية، فهذا أمر الحديث فيه يطول، إلا أننا سنذكر باختصار بضع ملاحظات، تعليقًا على بعض النقاط الرئيسية التي وردت في الرأي الاستشاري للمحكمة، وذلك لما لها من انعكاسات على الوضع الحاضر.

وقد تكون الملاحظة الأولى على رأي المحكمة في هذه القضية البالغة الأهمية -التي لا تمس السلم والأمن الدوليين فحسب، لكن أيضًا سلامة ونجاة البشرية كلها- هي أن المحكمة تبنت في إجاباتها عن هذه المسألة أسلوبًا شديد الحذر والتحفظ. وهذا التحفظ يعود -من وجهة نظرنا- إلى أن المحكمة تصدت لقضية في غاية الحساسية، ليس من الناحية القانونية فقط، بل أيضًا من الناحية السياسية والعسكرية. فهناك دول كبرى تمتلك ترسانة نووية ضخمة، ولا ترغب طواعية في التخلي عنها أو في أن يوصف امتلاكها لها بأنه غير شرعي من منظور القانون الدولي.

وكانت محكمة العدل الدولية قد بدأت فحصها في هذه المسألة بالإشارة إلى المعاهدات الدولية وإلى ميثاق الأمم المتحدة، ولا سيما المادة 2 الفقرة 4 من الميثاق التي تنص على "مبدأ تحريم استخدام القوة ضد سلامة أو استقلال إحدى الدول" أو بأي طريقة تتعارض مع أهداف الأمم المتحدة. كما تطرقت كذلك إلى المادة 51 من الميثاق التي تؤكد حق الدول في الدفاع عن نفسها. وقد رأت المحكمة أنها لم تعثر في أي من المعاهدات الدولية أو في ميثاق الأمم المتحدة على نص يحرم صراحة استخدام الأسلحة النووية.

أي صراع نووي ربما يفضي في حالة تصاعده إلى فناء البشرية كلها أو جزء كبير منها على الأقل

استخدام الأسلحة النووية وقواعد القانون الدولي الإنساني

ثم تطرقت المحكمة من بعد ذلك إلى قواعد القانون الدولي الإنساني، باعتباره القانون الواجب التطبيق في أوقات الحروب والصراعات المسلحة. ولبيان شرعية أو عدم شرعية استعمال الأسلحة النووية، استعرضت المحكمة الدولية مجموعة من المبادئ والقواعد الرئيسية ذات الصلة بهذا الموضوع. فقد نبهت المحكمة إلى القاعدة التي تلزم الأطراف المتحاربة بضرورة حماية المدنيين والمنشآت المدنية، وبالتالي التزام الدول في أثناء خوضها العمليات الحربية بالتمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية. كما نبهت المحكمة إلى قاعدة تحريم إلحاق أذى أو معاناة غير مبررة بالمقاتلين، وأشارت كذلك إلى ضرورة حماية الدول غير المشاركة في الصراع، وذلك بمراعاة مبدأ الحياد.

وبعد أن استعرضت المحكمة هذه القواعد، قامت ببحث مسألة إذا ما كان التهديد باستخدام الأسلحة النووية أو استعمالها يمثل انتهاكا لهذه المبادئ الرئيسية في القانون الدولي الإنساني. وقد توصلت المحكمة إلى نتيجة مفادها أن التهديد باستخدام أو استعمال الأسلحة النووية يعد بصفة عامة انتهاكا لقواعد القانون الدولي المطبقة في زمن الحرب، ولا سيما القانون الدولي الإنساني. لكن المحكمة لم تشأ أن تحدد على وجه اليقين إذا ما كان استعمال الأسلحة النووية في حالة الدفاع القصوى عن النفس يعد أمرًا مشروعًا أم لا. والمقصود هنا بحالة الدفاع القصوى هو أن توجد دولة في حالة دفاع عن النفس ضد عدوان خارجي ويكون وجود الدولة نفسه في خطر.

يحسب لمحكمة العدل الدولية أنها أكدت الخطورة الكبيرة التي تمثلها الأسلحة النووية وأن الدول التي تمتلك هذه الأسلحة مطالبة بالسعي بحسن نية لنزعها والتخلص منها

لا ريب أن المحكمة الدولية واجهت مأزقًا كبيرًا وهي تحاول أن توازن بين حق الدولة في الدفاع عن نفسها -باعتباره حقًا مشروعًا- أقره ميثاق الأمم المتحدة وبين قواعد القانون الدولي الإنساني. وربما يتساءل المرء عما إذا كان على المحكمة -وهي تقوم بهذه الموازنة الصعبة- أن تعطي لحق الدولة في الدفاع عن نفسها الأولوية على قواعد القانون الدولي الإنساني وقوانين البيئة وقواعد حقوق الإنسان.

لا شك أنه يحسب لمحكمة العدل الدولية أنها أكدت الخطورة الكبيرة التي تمثلها الأسلحة النووية وأن الدول التي تمتلك هذه الأسلحة مطالبة بالسعي بحسن نية لنزعها والتخلص منها. ولا شك أيضًا أن المحكمة لم تأذن صراحة للدولة التي تواجه خطرًا وجوديًا باستعمال السلاح النووي للدفاع عن نفسها، لكنها تركت الباب مواربًا في هذه المسألة ولم تجب بشكل كامل عن سؤال كان ينبغي عليها باعتبارها الهيئة القضائية الأعلى في العالم أن تجيب عنه دون أي لبس أو غموض. فهذا الرأي الاستشاري -الذي أعطته محكمة العدل الدولية قبل حوالي ربع قرن من الزمان- له بالتأكيد انعكاساته على ما نعيشه نحن الآن من أجواء تهدد فيها إحدى القوى العظمي باستعمال السلاح النووي بزعم أنها تواجه خطرًا وجوديًا.

ولئن كان رأي المحكمة قد أكد صراحة على أن استعمال الأسلحة النووية يعد خرقًا جليًا لقواعد القانون الدولي الإنساني، إلا أنه يؤخذ عليها تحفظها الشديد وترددها في أن تعطي إجابة صريحة وواضحة في ما يتعلق بمسألة شرعية استعمال السلاح النووي حينما تكون الدولة في حالة دفاع شرعي، ويكون وجودها نفسه معرضًا للخطر. إن الدولة ككيان ليست هدفًا في حد ذاته وإنما هي وسيلة لحكم الشعوب وتنظيم المجتمعات. ومثلما هو معروف فإن أي صراع نووي ربما يفضي في حالة تصاعده إلى فناء البشرية كلها أو جزء كبير منها على الأقل. وبالتالي، فإن نجاة الإنسان والحفاظ على كرامته ينبغي أن تكون دائمًا هي الغاية والهدف الأسمى الذي يعطى الأولوية على ما عداه من أهداف. إن حق الدولة في الدفاع عن نفسها ضد أي عدوان خارجي هو لا ريب حق مشروع أكدته قواعد القانون الدولي. لكن ممارسته ينبغي أن تكون كذلك في إطار قواعد هذا القانون، ولا سيما قواعد القانون الدولي الإنساني.

المصادر:

  • International Court of Justice
  • Legality of the Threat or Use of Nuclear Weapons
  • Advisory Opinion of 8 July 1996

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.