شعار قسم مدونات

قراءة نقدية.. تاريخ انتفاضة 1919 المصرية (2)

ثورة مصر 1919
ثورة مصر 1919 (مواقع التواصل)

أذكِّرك (قارئي العزيز) بأني جعلت "تعليقاتي" خارج متون الاقتباسات، أما "توضيحاتي" اللازمة، فقد أدرجتها ضمن متون الاقتباسات، وتجد كلاهما (التعليقات والتوضيحات) بين هذين القوسين [ ].

يقول الرافعي عن أسباب انتفاضة 1919

"… تقصيّت أسباب الثورة جميعها، من سياسية واقتصادية واجتماعية، ورجعت بها إلى عدة سنوات خَلَت، فهي من الوجهة السياسية ترجع إلى تذمُّر الشعب من الاحتلال الأجنبي، وإخلافه وعوده في الجلاء، وتغلغله في شئون البلاد كبيرها وصغيرها، وإلغائه دستورها، ومحاولته فصل السودان عنها، ثم إعلانه الحماية الباطلة عليها في ديسمبر(كانون الأول) سنة 1914، إبان الحرب [العالمية الأولى]، ولقد كتم الشعب تذمره مدة الحرب، تحت ضغط الأحكام العرفية، حتى إذا عُقِدت الهُدنة، وبدا من الحكومة البريطانية إصرارها على توكيد الحماية وتثبيتها، ويئس الشعب من الوصول إلى حقوقه بالطرق السلمية، جنح للثورة، يعلن بها سخطه على الحماية والاحتلال، ويحقق بها آماله في الحرية والاستقلال".

يتابع الرافعي

"وكان لمبادئ الرئيس ويلسون [رئيس الولايات المتحدة الأميركية] أثرها في التمهيد للثورة، بما أعلنه من حق الشعوب في تقرير مصيرها. كما أن جهاد الحزب الوطني له الفضل الكبير في تهيئة البلاد لها، وذلك بما بثه فيها، على تعاقب السنين، من روح الوطنية الصادقة، وما غرسه مصطفى كامل ومحمد فريد وأنصارهما وتلاميذهما في نفوس الجيل من المُثُل العليا…".

[قد يكون ما قاله ويلسون مفيدا للسياسيين في المحافل الدولية لزوم الخطابة، أما الشعوب فتسعى غريزيا لطرد الغزاة، قال نلسون أو لم يقل].

يضيف الرافعي

"ثم جاء تأليف الوفد المصري في نوفمبر(تشرين الثاني) سنة 1918، برئاسة سعد [زغلول]، مُعَجّلا لظهور الثورة، إذ كان موقف سعد وصحبه من الإنذار الذي وجهه إليهم الجنرال "وطسن" قائد القوات البريطانية، في 6 مارس(آذار) 1918، بمثابة دعوة للمقاومة العامة، فلقد أنذرهم بأن لا يجعلوا الحماية [البريطانية على مصر] موضع معارضة أو مناقشة، وألا يعرقلوا تأليف وزارة جديدة، تخلف وزارة رشدي باشا المستقيلة، وتوعَّدهم بأشد العقوبات العسكرية، فلم يتراجعوا أمام هذا الإنذار، واستمروا في المقاومة، وأعقب ذلك اعتقال سعد وزملائه الثلاثة [محمد محمود باشا، وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا] يوم 8 مارس(آذار)، فكان بمثابة الشرارة التي أشعلت نار الثورة".

يستطرد الرافعي

"عمت الثورة أرجاء البلاد دون تدبير أو تنظيم، لم تكن ثمة هيئة أو جماعة تدعو إليها أو توجهها، بل شملت البلاد فجأة؛ وعلى غير انتظار، وكان ذلك من مظاهر جلالها وروعتها، وظهر فيها فضل الشعب، إذ أدرك (بفطرته السلمية) أن الحركة الوطنية إنما قامت ضد الاحتلال الأجنبي، وكان مقصودا منها (بداهة) جلاء الاحتلال عن البلاد، وأن الاستقلال الصحيح لا يتحقق إلا بالجلاء، وعلى هذا الأساس قامت الثورة، فبرنامج الثورة كان أوسع مدى من برنامج الوفد، ولم تكن الثورة وليدة الوفد، ولا وليدة سعد [زغلول]، بل كلاهما وليدُ الثورة، هذه حقيقة يقتضينا الإنصاف أن نذكرها، تقريرا للواقع، وإبرازًا لفضل الشعب في ثورة سنة 1919، فلقد اتجه وِجهة الجلاء، واحتمل في سبيل الجهاد ما احتمل من شدائد وتضحيات".

["… وكان ذلك من مظاهر جلالها وروعتها، وظهر فيها فضل الشعب، إذ أدرك (بفطرته السلمية) أن…"! هذا تأليف وليس تأريخ! فالمؤرخ يروي الحدث مجردا من الألفاظ الإنشائية، أما الحديث عن الجلال، والروعة، والفطرة السليمة، وفضل الشعب، فهو لصناع الحدث؛ إذ من الطبيعي أن يخلع هؤلاء على الحدث الذي صنعوه ما شاؤوا من الأوصاف "العاطفية" و"التمجيدية"، وللمؤرخ أن ينقلها عنهم، ثم ينقدها نقدا موضوعيا، إما إثباتا، أو نفيا، أو ينقيها من المبالغات.

في هذه الفقرة يسوق الرافعي "معلومة تاريخية" للأجيال الجديدة: "لم تكن الثورة وليدة الوفد، ولا وليدة سعد، بل كلاهما وليدُ الثورة، هذه حقيقة يقتضينا الإنصاف أن نذكرها، تقريرا للواقع، وإبرازًا لفضل الشعب في ثورة سنة 1919". وكان حري بالمؤرخ أن يتوقف عند قوله "تقريرا للواقع"، لا أن يستطرد فيقول: "إبرازا لفضل الشعب"! فالمعلومة المجردة تقول "لم تكن الثورة وليدة الوفد، ولا وليدة سعد، بل كلاهما وليدُ الثورة". وإن كان ولا بد من الإضافة، فلتكن "أما الثورة، فكانت وليدة الشعب".

في هذه الفقرة أيضا، كان الرافعي مبهورا بـ"جلال الثورة وروعتها"؛ لأنها شبّت من "دون تدبير أو تنظيم"، ودون قيادة. ثم ما لبث أن تكلم عن "برنامج الثورة"! ولا أدري كيف يكون هناك "برنامج" لعمل غير مدبّر، وغير منظم، ودون قيادة! ثم نراه يصف هذه الانتفاضة بـ"الجهاد"، وهي كلمة "إنشائية"، قصد بها إضفاء "القدسية والجلال" على هذا الحراك الشعبي. وللمفارقة، فإنه سيتبرأ بعد قليل من "العنف"! ولست أفهم ماذا يعني الجهاد لدى الرافعي؟ وماذا يعني العنف؟ وكيف يُحَيِّي "الجهاد" ويدين "العنف" في آن؟! أليس الجهاد ذروة العنف، ما دمنا نتحدث عن مواجهة احتلال غاصب للوطن؟! هل يجب على الشعب الواقع تحت الاحتلال أن يواجه المحتل بالورود مثلا؟!]

يقول الرافعي

"… بدأت الثورة في مارس(آذار) سنة 1919، واستمرت حوادثها إلى شهر أغسطس(آب)، وتجددت في أكتوبر(تشرين الأول) ونوفمبر(تشرين الثاني) من تلك السنة، أما وقائعها السياسية فلم تنقطع، واستمرت متتابعة إلى شهر أبريل (نيسان) سنة 1921، أي أنها مكثت نيّفًا وسنتين، ثم أعقبها انقسام داخلي" [أي داخل الذين تصدروا المشهد].

"وإذا كنت قد أرّخت ثورة 1919 ومجّدتُها، فإني مع ذلك لا أدعو إلى الثورة في ذاتها، وسيرى القارئ من ذكرياتي عن الثورة أني لست من أنصار العنف، ولا أدعو إليه، بل أدعو إلى النضال بالوسائل السلمية، أدعو إلى الإخلاص للوطن، فإن عقيدة الإخلاص الذي لا نهاية له في نفس كل مواطن، هي عدة الأمة في حياتها القومية، وإن في القوة المعنوية للنفوس، دون القوة الغشوم، ما يكفل لها تحقيق آمالها، وفي ميادين الجهاد السلمي، وفي ساحات الكفاح السياسي والاقتصادي، مجال فسيح لأعمال مجيدة، تنهض بهذا الوطن، وتحقق أهدافه، وترد عنه أحداث الزمان".

[إيه يا شيخ المؤرخين!.. فقرة إنشائية بامتياز!.. كلمات لا تدل (بأي حال) على كنهها ولا معانيها الحقيقية!

"لستُ من أنصار العنف ولا أدعو إليه"! وهل "الجهاد" ضد المحتل يخلو من "عنف"؟ أو يجب أن يخلو من العنف؟! وهل جُعِل الجهاد أو "العنف" إلا للدفاع عن حق أصيل مستهدف، أو استخلاص حق مغتصب؟! أليس الاحتلال "قوة غشوم" غاصبة للبلاد، مستعبِدة للعباد، يا شيخ المؤرخين؟!

"جهاد سلمي"! لا أفهم كيف يكون الجهاد "سلميا" ضد "محتل غاصب" للوطن بكل ما فيه! وكأن المسألة ليست أكثر من نزاع (بين شقيقين) على تركة والدهما المتوفى! عجيب هذا التعبير، من مؤرخ "قومي" عند حديثه عن المحتل!

"أدعو إلى الإخلاص للوطن، فإن عقيدة الإخلاص الذي لا نهاية له في نفس كل مواطن، هي عدة الأمة في حياتها القومية"! تعبير إنشائي لا علاقة له بالتأريخ. ماذا يعني لك (عزيزي القارئ) تعبير "عقيدة الإخلاص"؟ هل يمكنك شرحه لتلاميذك في المدرسة أو حتى لطلابك في الجامعة؟ هذه التساؤلات تنسحب (أيضا) على تعبير "حياتها القومية"! ماذا تعني "الحياة القومية"؟! أنا شخصيا لا أعرف.

إن هذه اللغة "المائعة" في التأريخ هي التي أفقدت الأجيال المتتابعة بوصلتها، وحرفتها عن المسار الصحيح، وحرمتها القدرة على التقييم "الفطري" للأمور، ولا نزال نعاني من آثار هذا "الخواء" حتى اليوم، وبعد اليوم، وحتى تستعيد الكلمات في وجداننا معانيها ودلالتها التي أودعها الله فيها، وليست تلك المعاني الجوفاء الباهتة التي سالت حبرا على ورق "المؤرخين" بغير حساب؛ لأسباب هم أدرى من غيرهم بها، والله بها عليم!

بعد هذه الاقتباسات من مقدمتَي الطبعتين، الأولى والثانية، نستعرض فيما هو آت (بحول الله) تاريخ انتفاضة 1919 التي مهّد لها المؤرخ بوضع مصر، قبل نشوب الحرب العالمية الأولى وبعدها].

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.