شعار قسم مدونات

لحظات من ريف دمشق

ما عشناه خلال 10 سنوات يحتاج لدعم نفسي وأفكار جديدة وقوارب نجاة وغسيل دماغ ورحلة إلى اللاوعي (الفرنسية)

عنتاب (تركيا) الثالثة فجرًا، فجأة وسط الظلام بعد انقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي، سافر اللاوعي فورا إلى دمشق، وتحديدًا إلى صحنايا، هناك حيث مقبرة من الخوف، وعدم الأمان والخيبة واللاعودة وكثير من الأحداث المليئة باليأس والفشل، وحتى أكون منصفة احتوت أيضا على لحظات نجاح وحب وسعادة وأمان مصاحبة لوجود عمّتي أم أحمد رحمها الله.

تُرى هل التيار الكهربائي الآن في هذه اللحظة مقطوع في صحنايا أم لا؟ هل البيت الموحش هناك يسكنه أحد أم لا؟ كم من السيارات على الطريق تمشي الآن؟

وعلى الحدود، كم من المهاجرين يباتون ينتظرون الخلاص؟
وفي تركيا، كم من لاجئ ينتظر إصدار بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك)، وآخر ينعم بسياحة فارهة في طرابزون!

وعلى طريق المتحلق الجنوبي في دمشق، هل لا تزال هناك سيارات مفخخة؟ وهل يقف الطلاب نهارًا على أرصفة الطرقات في البرامكة بضجيج كبير مذهل؟ ولا أعلم كم منهم لا يزال واقفا على الرصيف وكم غادر منهم مع أحلامه بعيدا؟!

تحدثني صديقتي أن "سنيكرز" أصبح سعرها 3 آلاف، ولم أعد أتذكر كم من الآلاف أسرفت.

لا يهم، ففي أوربا أيضا يتسابق اللاجئون على لبس العلامات التجارية وركوب السيارات، وهناك آخرون يصعقهم موت مفاجئ.

باب المطبخ في صحنايا كان مزعجا ويصدر ضجيجًا في الليل عندما تشتدّ الرياح، ممّا يقلقني ويسبب لي خوفا ليلًا، لا أعلم إن كان الآن يقلق من هم بالمنزل أيضا؟ لا تزال بعض الفئات تسكن المخيمات ولا تُحكى معاناتها ولا يمكنني وصفها، تمتلئ أيضًا الزنزانات بالآلاف، ولا أعلم إن كانوا يعرفون الليل من النهار؟ وماذا عن التيار الكهربائي؟

بائع الخضار في صحنايا (أبو فايز) لم يكن يجيد النطق بشكل صحيح، وفي إحدى المرات ظنّت ابنة عمتي أنه يتحدث بهذه الطريقة غير المفهومة "مازحًا"، فضحكت مما جعلني أشعر بالتوتر، فغمزت لها أن انتبهي هذا نطقه، فماذا حلّ به في هذه الساعة؟ هل عاد إلى سبينة؟ سبينة هي الأخرى لا أعرفها، لكن أهل صحنايا قالوا إن معظم "الحرامية" الذين ترددوا على البيوت في فترة ما كانوا من سبينة. وماذا عن أهل صحنايا؟  كانوا يمتهنون اللامساعدة، ليس لديّ الحق أن أطلق أحكاما، وحقيقة أخشى "الكارما"، لكن أتمنّى أن يكونوا لطفاء بشكل أكبر، وتحديدًا جاري "أبو عدي" البارع في توجيه الاتهامات ورمي النظرات الجارحة المليئة بالعدوانية. يتحدّث أبناء بلدي عن العنصرية في تركيا وأوروبا وفي البلدان التي استوطنوها! وهم أساسا يمارسون العنصرية بين بعضهم البعض بشكل رهيب، وطريقة عجيبة، ووقحة ومثيرة للاشمئزاز.

التيار الكهربائي عصب الشتاء، وها نحن على أبواب الشتاء، وكيف يمكن لشمعة أن تقاوم كل هذا الشتاء؟

"سوق الكهربا" في المرجة مليء بالبطاريات و"اللدات" وما شابهها وأخواتها ولوازمها. في آخر مرة كنت هناك أضعت أختي وشعرت بخوف كبير ولأول مرة أفكّر في أشياء تشبه ما كانت تفكر فيه أمي، وظننت أن أحدهم قام بسرقتها لأنها لم تجب على الجوال!

أخيرا وجدتها واشترينا بطارية وعدنا للمنزل الكئيب ذي الجدران الباردة، وفرحنا بأن "اللدات" أضاءت البيت بشكل أفضل من البطارية القديمة، وفي اللحظة نفسها وعلى أنوار البوسفور يحيي أحد اللاجئين ليلته الرائعة بكلّ سرور.

أشعر بالنعاس والغريب أن التيار الكهربائي لم يعد، لم يكن ليحصل هذا هنا!

جميلٌ أنه حصل لإخراج هذه الصور الكئيبة من ذاكرتي، وأنا أساسا أريد إخراجها والتخلص منها ورميها في مكب الحياة بعيدا عن الذاكرة التي أحررها جميعها.

إن ما عشناه خلال 10 سنوات يحتاج لدعم نفسي عظيم وأفكار جديدة معززة وقوارب نجاة وغسيل دماغ ورحلة إلى اللاوعي وانتشال آلام مجمّعة مخزنة وركلها بعيدًا من دون أن تأتي حاضرة فور استدعائها.

هذه الليالي اللعينة البائسة يحياها الواحد منا كجزء من مستحقاته في هذه الحياة، وتختلف درجات البؤس لكل منّا؛ بؤس أحدهم بفشل رحلته إلى إيطاليا، وبؤس آخر يحياه في القيد ينتظر كسره بفارغ الصبر؟ لا أعلم إن وضعنا الميزان لقياس الكآبة والبؤس والسعادة في هذه الحياة؛ هل سيكون الجميع متساويين؟ أعتقد أن الجميع ينال نصيبا من السعادة والبؤس على نحو يساوي الآخر، بغض النظر عن الماديّات التي يمتلكها أحدنا.

يأتي التيار الكهربائي فجأة لأبتسم وأنسى كلّ شيء، وأصل إلى عالم جديد مليء بالأضواء والدفء والراحة، وأتابع ما كنت أشاهده على يوتيوب بكل شغف، ولكن قد لا يزال التيار الكهربائي مقطوعًا في صحنايا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.