شعار قسم مدونات

الحنين إلى المأساة

ربما للدفئ أن ينسي أهالي درعا مرارة المأساة:
نعم أحن إلى المقبرة لأن هناك لحد أخي وابنه الصغير (الجزيرة)

هل من أحد يحن إلى الأسى؟ كيف لأحد أن يحن إلى العذاب؟

وكيف يقبل أن يرجع إلى الماضي الذي أذاقه الحنظل؟

نعم.. يوجد ببساطة، إنه أنا، أحن إلى الأسى، ليس لأني أحبه بل لأنه يرتبط بعائلتي، والعائلة تعني السعادة

نعم.. أحن إلى الوطن، والوطن يعني الكرامة

نعم.. أحن إلى المقبرة، لأن هناك لحد أخي وابنه الصغير

نعم.. أحن إلى بيتي الذي كان منتصب القامة

نعم، نعم.. أحن إلى الأسى.

تتدافع تلك الكلمات في معجم مفكرتي، حيث إنها تتسلل لقلمي لأفرغها على ورقتي البيضاء التي جعدتها الحرب.

ماذا تعرف عن الماضي؟

أعرف أنه الساعة التي مضت منذ قليل، وأعرف أنه امتداد لساعات من المستقبل، ومثلما أن المستقبل ليس له نهاية كذلك الماضي، وأعرف أنه درس ينبغي أن نتعلم منه ويكون مرجعا للجميع، فالماضي مهم كما هو الحاضر، فمهما كان الماضي سحيقا لا بد من الاستعانة به.

اليوم في السنة الماضية غير اليوم في هذه السنة.

وأنا في السنة الماضية غير أنا في هذه السنة.

أحب الذكرى وربطة العنق الزرقاء والقميص الأبيض لأنها ترتبط بالماضي، أحب أخي وذراع صديقي المبتورة، أحب سقف بيتي الذي لم يعد متقوسا.

أحب أن أتنشق هواء الماضي، وأزفر في المستقبل، أخطو في المستقبل وقدمي في الماضي، أحب الماضي حبا جما.

كنت أعود من العمل وتتسارع خطواتي نحو البيت، أصل إليه وأصافح أبي وأقبل يده وأشمها، كان يضم راحة يدي إلى يديه ويقول إن يديّ باردتان، كان يمسد يدي ليعطيها من دفئه الضامر، كنا نجلس ونحستي الشاي الذي أعده على الحطب، نتسامر ونسمع صوت الأذان.

بنيت نفسي ثم انهارت، ليس لأنها هزيلة، لا، بل انكبت من شدة المتاعب، والآن أقوم بترميمها.

أدركت أن الحياة ثابتة، ونحن في تغير مستمر.

أتتعتع في الكلام، لا أجد ما أقول، لعل لغة الدموع أبلغ من كلمات اللغة العربية التي تبلغ 12 مليون كلمة، وأحيانا يكون الصمت أبلغ، نعم إنه صراع بين الماضي والحاضر، هذا الصراع الممتد لا ينتهي (سرمدي).

هل يا تُرى كانت الحياة حقا بسيطة وعفوية، أو هي حلاوة الذكرى تزين في عيوننا الماضي فنستلذ به؟ أو كان ذلك القلب البريء قادرا على تحويل ما يدخل إليه من مشاهد ومواقف إلى بهجة وفرح؟ (سلمان العودة)

ذات الطريق كل يوم في الصباح أمر به حتى حفظته عن كثب، خاطبت نفسي لأغير المسار وأبحث عن الجديد، في اليوم التالي قررت أن أبدل المسلك فمررت بزقاق جديد ولكن كانت أشعة الشمس ذاتها والهواء ذاته، وعلى نفس الأرض أيضا، وعن غير قصد عدت إلى طريقي المعتاد، لاحظت أن الأرض حفظت خطواتي.

أعبر على الرصيف وأمشي، تبدأ الذاكرة بالتخبط ترتعد كتلفاز الأبيض والأسود تذكرني

الأرض.. الطائرات.. القصف.. بسمة أمي.. ضحكة أبي.. أهازيج أخي.. صديقي

أنظر.. أهدأ.. أحملق.. ألتفت.. أمشي.. أسرع.. أبطئ، أبرد وأدفأ.. أبتسم.. أشرد.. أتذكر.. أخاف.. لا أعرف.

أغبط الطالب الجامعي على نعمة لا يراها ولا يشعر بها، ولكني أرى النعمة التي عنده لأنني أفتقدها، أشاهد أشخاصا في الشمس من دون ظلال من حجب ظلها.

تلك المشكلة مع الماضي فهو لا يمضي بالفعل،

بل يبقى معلقا هنا وكأنه علقة تمتص دمك، مهما فعلت أو قلت لا يمكنك التخلص منه أبدا. (بول سوسمان)

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.