شعار قسم مدونات

إلى ابني.. ما إرهاصات نهاية القهر الذي نحياه؟

الاستبداد والظلم والفساد والقهر والخيانة أرى فيهم جميعا إرهاصات على نهايتهم القريبة (الجزيرة)

بني الحبيب، كانت هذه أطول مدة على الإطلاق مرت علينا -أنا وأنت- من دون أن أكتب لك خلالها شيئا منذ رسالتي الأولى قبل عدة سنوات، هل تذكر؟ في الحقيقة، لطالما تحينت الفرص كي أكتب إليك خلال هذه المدة، غير أن هناك أمورا وأحداثا أجدها تؤثر عليّ وعلى تصرفاتي بشكل مباشر، ولا أستطيع الانفكاك عنها، حتى وأنا على سرير النوم أحاول أن أغيب ولو قليلا عن صراع الحياة ولا أقدر مع ذلك، فأستمر أتقلب حتى الفجر. ومن هذه الأمور والأحداث هي الحروب -بني- التي يدور رحاها في جزء كبير من أوطاننا، والتي لم يشأ بعد تجارها أن تضع أوزارها كي يأخذ الجوعى والمقهورون والمعدمون والمهجرون أنفاسهم مثلنا. وفوق ذلك كله، تبجح المستبدون باستبدادهم، والظلمة بظلمهم، والفاسدون بفسادهم، والأغبياء بغبائهم، والجاهلون بجهلهم، والخونة بخيانتهم، على امتداد التراب العربي إلى درجة لم تعد تطاق. ومع هذا القهر، يمر كوكبنا بتفاقم لظاهرة تغير المناخ ونخسر كثيرا من غاباتنا وموائل حيواناتنا البرية ويتدمر التنوع البيولوجي، وهي أمور تؤرقني كذلك بقدر ما تؤرقني أحوال بلادنا المخزية.

كل ذلك -بني الحبيب- وقف حاجزا بيني وبين تفتق قريحتي عن سرد مشاعري في رسالة إضافية، أنا أعلم جيدا أنك لن تقرأها كما لم تقرأ ما سبقها، إلا أنني أقترب من اليقين بأنه سيأتي عليك ذاك اليوم الذي ستقرأها فيه بتمعن شديد. وهناك أمر آخر شارك في بناء هذا الحاجز الذي شرعت للتو في هدمه -لكني أخجل من ذكره لك لحقارته بين خضم هذا القهر الهائل الذي بات يملأ الكوكب كله- وهو وضعنا القاتل الذي تولد جراء سعينا المفرغ وراء لقمة العيش، وتوفير ما يمكن توفيره لدفع فواتيرنا وتلبية التزاماتنا التي سعت أنظمتنا سعيا لجعلنا لا نطيق حملها.

لكن هذا الاستبداد والظلم والفساد والقهر والخيانة أرى فيهم جميعا إرهاصات على نهايتهم القريبة كلهم، حتى سعينا المفرغ ذاك، كله سينتهي قريبا. تصور -بني- أنا لا أحاول هنا التخفيف عنا أو إقناع نفسي كي أستمر، لا، بل هذه حقيقة ستسطع قريبا جدا، وأنا أبشرك بها كما أني أكتب هذه الكلمات الآن؛ فالتبجح دليل هائل على نهايتها، إلا أنني أشعر بالحزن الشديد كوني لن أكون من سكان الكوكب وقت هذه النهاية. وقد صرفت وقتا طويلا خلال تلك الفترة وأنا أحاول إقناع نفسي بأن روحي ربما ستحلق في سماء الأوطان وقت النهاية القريبة، وستشهد هذا التغيير وستحوم حول المشانق الخشبية التي ستنتشر على الطرقات والنواصي وفي الميادين، وحينها لن أشتم تلك الروائح البشعة التي ستنبعث من الأجساد المتفسخة القذرة بينما تقضي أيام وليالي تتأرجح عليها، وعندها ستسمع روحي الأغاني والأهازيج والزجل الجديد الذي لن يأتي على ذكر العدو والأعداء مرة أخرى، سيكون زجلا جديدا كليا، لكني لا أستطيع وصفه جيدا لك، فهو شيء يدور ويدور هناك داخل فكري العميق لكني لا أستطيع بعد جلبه إلى إدراكي.

أمر آخر يزيد من قرب هذه الإرهاصات -بني- وهو حدث هذه الأيام الأعظم حين حرر الأسرى الفلسطينيون الستة أنفسهم من معتقل جلبوع بحفر نفق تحته بملعقة ونصل سكين صدئ، وهم كما تعلم أسماءهم (محمود عارضة، ومحمد عارضة، ويعقوب قادري، وأيهم كمنجي، وزكريا الزبيدي، ومناضل انفيعات) يا الله! كم كان ذلك مردا هائلا لأرواحنا المكسورة يا الله! في الحقيقة، أنا لم أحزن كثيرا حين تم العثور على 4 منهم لقناعتي أنهم لم يحرروا أنفسهم من الأسر كي يحيوا حيواتنا التي نحياها نحن، لا أبدا، هم ليسوا بحاجة ليحيوها أصلا بهذا الشكل، هم حرروا أنفسهم فقط "ليُعلِّموا" على العدو الصهيوني الضعيف الذي بات اليوم أضعف من أي وقت مضى، ثم جاء هؤلاء الأبطال العظماء وضربوا كيانه ضربة في مقتل هذه المرة.

لم يكن أمامهم -بني- إلا أمرين اثنين حسب رأيي، الأول تنفيذ عمليات استشهادية في العدو وتكبيده خسائر كبيرة في الأرواح، لأنهم يعلمون جيدا أنه سيتم العثور عليهم عاجلا أو آجلا، والثاني هو عبور الحدود تجاه سوريا أو لبنان أو الأردن، أو الوصول لغزة، وكم كان مستحيلا وصولهم إلى غزة، كان مستحيلا بقدر ما كان سيحيون حياة هناك طبيعية كاملة إذا وصلوا هناك -يا بني- وكلا الأمرين الأولين كانا غاية في الصعوبة بالنسبة لهم، لكن حين تم العثور عليهم أخيرا كانوا قد حققوا الهدف الأعظم وهو كسر هيبة العدو وتحطيم معنوياته، وكسر قيمته وكشف حقيقة قوته الوهمية التي أوهم بها العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.