شعار قسم مدونات

قناة الجالية العربية بشيكاغو.. أول القصيدة عنصرية

ناطحات السحاب شيكاغو
في يونيو/حزيران 2021، تم تدشين قناة "الجالية العربية" الفضائية التي تبث من شيكاغو بولاية إلينوي الأميركية (بيكسابي)

في يونيو/حزيران 2021، تم تدشين قناة "الجالية العربية" الفضائية التي تبث من شيكاغو بولاية إلينوي الأميركية. وفي 14 أغسطس/آب من نفس العام، بثت القناة كلمة مصورة لرئيس مجلس إدارتها رجل الأعمال الأردني الدكتور وضاح الكيلاني، قال فيها إنه ورجال أعمال آخرين هم رعاة القناة، وإن من بين أهدافها أن تكون "المرجع" لكل ما يحتاجه المغترب العربي.

وفي 31 أغسطس/آب 2021، نشر الموقع الأردني "وطنا اليوم" مقالا بعنوان "قناة الجالية العربية: منتج إعلامي أردني يستهدف الجالية العربية في أميركا"، وعرض حديث الكيلاني عن القناة كإحدى أليات ما أسماه "النموذج الأردني في تعزيز التعاون العربي من خلال الجهود التي يبذلها جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، وتجسيد رسالة الأردن الداعم للأشقاء العرب والمدافع عن قضاياهم"، وكذا حديثه عن "الاستفادة من تقنيات الإعلام الحديث، بما يخدم الأشقاء العرب في بلاد الاغتراب وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية"، كما عرض الموقع قول المدير التنفيذي للقناة محمد الأمير إنها " تتضمن برامج تربط المغتربين العرب بالقضية الفلسطينية".

وحتى الآن، قدّمت القناة مادة إعلامية شابها عدد من الأخطاء اللغوية والرمزية والمهنية التي تتنافى مع أوصاف "العربية، المرجع، تقنيات الإعلام الحديث، دعم قضايا العرب". وكان أكثر تلك الأخطاء فداحة، ما ارتكبته القناة مؤخرا ولا يمكن تجاهله، وذلك لما قد ينجم عنه من آثار سلبية على القناة، والجالية العربية وعلاقاتها بالمجتمع الأميركي المحيط، والقضايا القومية العربية خاصة القضية الفلسطينية، وكذا على الأردن ومليكه.

ففي 26 أغسطس/آب 2021، عرضت القناة حلقة من برنامجها "سواليف"، تضمنت لقاءات مصورة في عدة محلات تجارية عربية بإحدى ضواحي شيكاغو. وبثت القناة فيها وصف أحد ضيوفها للأميركيين من أصول أفريقية بـ"العبيد"، الأمر الذي يندرج تحت "الخطاب العنصري" أو "خطاب الكراهية".

ومن الغريب أن هذا الوصف لم يسترعِ انتباه القائمين على الحلقة، فسمحوا ببثه إعلاميا كأن لا وجود "للمونتاج"، وذلك في تناقض واضح مع حديث الكيلاني عن "تقنيات العمل الإعلامي الحديث، ودعم العرب". وزاد الأمر سوءا استضافة أحد الأميركيين الأفارقة بعد ذلك الوصف مباشرة، ودعوته لمتابعة القناة. فماذا لو استجاب واستمع لهذا الوصف؟

إن بث مثل ذلك الخطاب على قناة عربية يتجاهل عددا من الحقائق والتداعيات المحتملة، ومنها:

  • أن من سمحت القناة ببث وصفهم بـ"العبيد"، هم أكثر حرية من غالبية العرب في بلادهم الأصلية، فهم يحظون بالممارسة العملية الآمنة لحقوق الرأي، والتعبير، والنقد، والاعتراض، والتظاهر، ولديهم دستور وقوانين فوق الجميع، ورؤساء لا يمكثون في الحكم سوى 4 أو 8 أعوام على الأكثر، وهم يضعون حكامهم تحت الرقابة الشعبية والمحاسبة الجماهيرية والعقاب إن تطلب الأمر، كما أنهم لا يتخذون من حكامهم أصناما تُعبد ولا فراعين تُمجد، ولا ينادونهم بـ"سيدنا، الأخ، القائد، الزعيم.. إلخ"، بينما سلبيات هؤلاء الحكام وانهزاماتهم وربما خياناتهم أيضا ملء السمع والبصر والتاريخ.
  • أن القناة ببثها لمثل هذا الوصف دون أي تحفظ أو تدخل تقني من جانبها، يعرضها لمسؤولية أدبية وأخلاقية، وربما قانونية وتعويضات بمبالغ ضخمة، خاصة إذا أثبت أحد الأميركيين الأفريقيين تعرضه لأضرار مادية أو نفسية جراء بث ذلك الوصف.
  • أن مثل ذلك الخطاب العنصري الذي بثته القناة، قد يعرّض كل الأعمال التجارية العربية -ليس فقط التي صُوّرَت فيها الحلقة- لاحتمالات خسارة متنوعة، ولا سيما أن من وُصِفوا بـ"العبيد"، يمثلون شريحة ليست بالقليلة من عملائها. وإن كان رعاة القناة أصحاب رؤوس أموال كبيرة تمكنهم من تحمل الخسائر، فإن عليهم مراعاة مصالح أصحاب الأعمال الصغيرة التي تمثل المصدر الأساسي وربما الوحيد لدخولهم، لا أن يُعرّضُوهم لخسائر ناجمة عن خطاب عنصري تبثه قناة يدعمونها.
  • أن خطابا كهذا قد يُعرّض الجالية العربية لانتقادات وردود أفعال سلبية تهدد أمنهم النفسي وسلامتهم الشخصية، كما قد يُوجِد صورة ذهنية عن العرب باعتبارهم عنصريين، بل سيُفقد الجالية الدعم المجتمعي الأميركي الذي اكتسبته بجهود امتدت لعقود طويلة.
  • وعلى الصعيد القومي العربي، فإن مثل ذلك الخطاب قد يُفقد العرب دعم نشطاء وأقليات ومنظمات حقوقية ومدنية أخرى كـ"حياة السود مهمة"، وسيُهدر نتاج عمل شاق مكثف من أجل الوصول لمثل تلك الشراكات العربية مع جهات مؤثرة في المجتمع الأميركي. ذلك الدعم الذي ظهر جليا في مشاركة أعداد كبيرة من غير العرب -بما في ذلك أميركيون من أصول أفريقية- في المظاهرات الضخمة التي أقيمت في مايو/أيار الماضي، تنديدا بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين. وليس بخاف على أحد مدى قلق إسرائيل من ذلك الدعم المتنامي للحقوق الفلسطينية، وكذا سعيها للقضاء عليه.
  • وعلى ذكر ذلك، فإن القناة بما بثته من خطاب عنصري، قد قدمت هدية قيمة مجانية لإسرائيل، إن استغلتها الأخيرة لصالحها. ففي الوقت الذي تبذل فيه جهود عربية مكثفة لاكتساب دعم أميركي وعالمي متنوع، وللدفع باتجاه تصنيف إسرائيل دولة فصل عنصري، يقدّم هذا الخطاب لإسرائيل ذريعة لاتهام العرب بأنهم عنصريون. وماذا لو ركزت إسرائيل على ذلك الخطاب وأعادت بثه للرأي العام الأميركي والعالمي؟ وماذا لو استخدمته للضغط على كل المساندين للقضايا والحقوق العربية؟ ترى من سيكون المستفيد المحتمل ومن الخاسر يقينا؟ وبأي منطق يمكن للعرب كسب إدانة لإسرائيل، في ظل خطاب عنصري تبثه قناة فضائية عربية؟
  • كما أن بث مثل هذا الخطاب يعكس تجاهلا لعواقب العنصرية وتسببها في أزمات دولية. مثال ذلك ما حدث في مؤتمر برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي 2016، حين طالبت رئيسة اللجنة الفنية بهيئة الدبلوماسيين الأفريقيين إيفون خاماتي باتخاذ إجراءات عقابية ضد مصر، على إثر وصف رئيس وفد الأخيرة للأفارقة بـ"العبيد". فماذا قد يكون الموقف من المملكة الأردنية التي تنتمي إليها القناة؟
  • إن بثّ مثل ذلك الخطاب من شأنه أيضا التشكيك في مصداقية المملكة الأردنية في دعم القضايا العربية، وكذا إحراج ملكها عبد الله الثاني بن الحسين وإهدار جهوده في خدمة القضايا العربية والفلسطينية. ومن أمثلة ذلك، تمسكه بالإشراف على المقدسات الإسلامية في فلسطين رغم الضغوط الشديدة عليه للتنازل عنها، ودفاعه عن العروبة والإسلام في الأمم المتحدة ومحافل دولية أخرى. وجهوده لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/أيار 2021. وقد صرح جلالته مؤخرا أن "هناك مؤامرة كانت تُحاك لإضعاف الدولة الأردنية والقضية الفلسطينية، ولكن الأردن تمكّن من التصدي لها"، فهل تصبح قناة الجالية العربية بمثل ذلك الخطاب عونا لأعداء الملك عليه؟

الخلاصة أن بث قناة الجالية العربية لمثل هذا الخطاب العنصري، يعكس تناقضا بين ما يقوله القائمون عليها نظريا وما تقدمه عمليا. كما أنه يُعرّض المصالح العربية "جالويا" وقوميا لأخطار محتملة. الأمر الذي يستدعي ضبط خطابها الإعلامي، ومراعاة خصائص المجتمع الذي تعمل به. ولا أظن أن عربيا واحدا سيرحب بأن يدفع من أمنه واستقراره ومصالحه ثمنا لأخطاء آخرين.

وأخيرا، فكم تمنيت لو استمع القائمون على القناة للنصائح التي أُسدِيَت لهم أكثر من مرة في خصوصية، ولو أنهم حذفوا الجزء المتضمن لذلك الخطاب العنصري، حرصا على الصالح العربي الخاص والعام.. لكن "وما نيل المطالب بالتمني".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.