شعار قسم مدونات

قيادة حماس.. وتحديات المسار الإستراتيجي

اسماعيل هنية
إسماعيل هنية (الجزيرة)

بداية، أتوجه بخالص الدعاء بالسداد والرشاد والتوفيق، وأن يعينكم الله على ما حملتم من أمانة، فهي والله عظيمة وثقيلة، وأحسب أنها تأتي في مرحلة عصيبة، وكذلك الأمل منعقد كثيرًا عليكم، ويثق بكم شعبنا المجاهد الذي يبحث عن الضوء في نهاية نفق الاحتلال، كما أنه يتلمس القيادة التي تستحقه وتليق به وبقضيته وتضحياته في زمن أصاب التهتك مفاصل المؤسسات الفلسطينية، وتعيش فيه القضية فصولا قاسية في التآمر عليها، ويحيا شعبنا في شتى أماكن تواجده بحثًا عن بارقة أمل وإشعاع نور يأخذ بيده إلى فلسطين المحررة، وإلى حياة عزيزة كريمة، والأمل فيكم كبير.

مجددا، تنالون ثقة إخوانكم في حماس في دورة جهاد جديدة، ولست بصدد تقديم التهاني أو التعريف بكم كقادة للكل الفلسطيني، فاسمكم مسطر -بإذن الله- في سجل الخالدين. ونشرت مقالا خاصا بالأخ إسماعيل هنية عند فوزه بالدورة الانتخابية الأولى، والواقع بعد سنوات أربع كما هو، فأنتم وإخوانك فريق إدارة أزمات في وقت استهداف متزايد عصيب، إذ تضيق النوافذ وتوصد الأبواب ويتم تشديد الحصار وتعظم المؤامرات.

فأنتم نحسبكم والله حسيبكم من الماضين للقدس والتحرير رغم ما أصابكم من لأواء وجراح، فلا تفقدوا بوصلة القدس وفلسطين، ولا تنحرفوا عن المسار الإستراتيجي مهما أصابكم من خطب أو أحاطت بكم الأزمات، فإن القيادة الرسالية صاحبة الهم والرؤية تبقى عينها على الفنار مهما تعالت أمواج البحار.

والله معكم ولن يتركم أعمالكم.

تجديد الثقة بكم استحضار لسير العظماء من جيل التأسيس، وعلى رأسهم الإمام الشهيد أحمد ياسين الذي أنتم تلميذه الأمين، مستحضرا نعمة الله عليكم أن أصبحت حماس بفضل الله وبركة دماء الشهداء وتضحيات الأسرى وصمود شعبنا قوة يحسب لها حساب، ومعقد أمل الأحرار في العالم والأمة للتخلص من الاحتلال وإعادة الاعتبار للعدالة والحرية والكرامة والإنسانية.

إن دورة كاملة مضت مدتها 4 سنوات قضيتها في قيادة حماس الطليعية، تحققت خلالها أهداف عظيمة، ولكن المشوار طويل والدرب صعب شائك. وربما أنت بحاجة إلى أن تقف أمام السنوات الأربع الماضية لإجراء جردة حساب مهني موضوعي على أساس من الأولويات والأهداف التي عملت وإخوانك في قيادة الحركة على تحقيقها للتحقق من المعطيات والواقع؛ أين أصبتم؟ وأين أخفقتم؟ ولماذا؟ ومن ذلك استخلاص الدروس والعبر، وأنصحكم بالتشدد في التقييم، لأن هذا يؤسس لمزيد من الإنجاز والنجاح.

تجديد الثقة لكم في قيادة حماس لدورة ثانية، وهي أكثر رسوخًا وإدراكًا لطريقها كحركة تحرر وطني تسعى إلى تحرير فلسطين وإقامة دولة الحق والعدالة فيها مع إدراك سياسي يتعمق في إدارة المرحلة بين الإستراتيجي والتكتيكي والثابت والمتغير، والحفاظ على البوصلة في مسارها الراسخ نحو القدس والأقصى. والتهديد التي تحياه حماس وجودي بهدف الإنهاء أو الإقصاء أو حرف المسار، ورغم ذلك المتابع لسلوككم القيادي السياسي، ورغم أنكم تمرون من عنق زجاجة بالغة الحدة؛ فإنكم تحافظون بشكل بالغ الحساسية على مساركم المقاوم، وتمنحون حركتكم المزيد من الوقت بشكل مثير.

أنتم في قيادتكم دورة جديدة في دورة حماس التحررية بحاجة إلى التوقف أمام قضايا جوهرية في بيئتكم الداخلية لتأكيد إنتاج حماس كقائد لمشروع تحرير فلسطين ونهضة أمة، وإن أهمية إعادة دراسة واقع النواة الصلبة لحماس وقدرتها على الصمود في مواجهة مراحل مقبلة يقينًا ستكون عاصفة وشرسة وتتجدد فيها محاولات الاستئصال التي لم ولا تتوقف.

إن النواة الصلبة لحماس بأصولها التربوية وعمقها الإيماني وحضورها الميداني ووعيها السياسي جوهر بقاء حماس وصمودها في مفترقات حاسمة سابقة، وقدرة النواة الصلبة على الصمود ترتبط بشكل كبير بمنظومة القيم الحركية والإسلامية والوطنية التي تجعل حماس نموذجا للتضحية والوعي والإرادة، وهذا ما على إسماعيل هنية تعميق غرسه في أبناء حماس بكثير من التشوق للعطاء لا للأخذ وللغرم لا للغنم. ومن هنا، فإن الحاجة ماسة إلى توظيف إنجازات حماس المتراكمة في القضية الفلسطينية، خاصة في غزة، إلى الصالح الحركي والفلسطيني العام، صعودًا نحو مشروع التحرر والنهضة.

ولأهمية النواة الصلبة المتمثلة في الصف التنظيمي، فإن التهديد التربوي القيمي لأبناء حماس هو التهديد الأخطر الذي يحتاج معالجات استثنائية تقوم على إعادة الاعتبار للأصول التربوية مع فهم وتوظيف متغيرات العالم وأساليبه الحديثة وإدماجها في منظومة تربوية فائقة التحصين وقادرة على الجمع بين التربية الخاصة والعامة على قاعدة أن الحاضنة الشعبية تمثل أيضًا ملحقًا تربويًّا حيويًّا ومهمًا ومؤثرًا في مفترقات الفتنة وفقدان البوصلة. وهذا الاستدراك التربوي يحتاج الإسهام الواعي العميق في الحفاظ على الهوية الحركية بعمقها الإسلامي وانتمائها الوطني وبراغميتها السياسية والواقعية. والحاجة قائمة في ذلك إلى فك الاشتباك بين الأيديولوجي والسياسي، بين الميثاق والوثيقة السياسية في فقه حماس المعاصر الذي تعاني منه كثيرًا في اتخاذ قراراتها وفي ردود أفعال قواعدها وفي فهم وإدراك شعبها وأمتها.

وفق فقه الأولوية التربوية، فإن الحاجة قائمة لتعميق الوعي السياسي من خلال قراءة موضوعية. عمومًا، يمكن القول إنه يحتاج تطويرا بشكل خاص، إذ إن الجانب المعرفي السياسي لدى كوادر حماس نخبوي وليس عاما، مما أضعف قدرة صفها على قبول مواقف سياسية قد تبدو متناقضة، والحاجة قائمة إلى معالجات عميقة باعتماد منهج سياسي تثقيفي للنواة الصلبة.

إن المعالجة الفاعلة والاستدراك المأمول يتحققان بتراكم التجربة والتوارث القيادي التكاملي وإعادة إنتاج المربي والقائد السياسي والثقافة العامة المنضجة للكادر، وإعادة الصياغة للوائح الداخلية لحماس في أنظمتها الانتخابية على أسس الحرية والتنافس العادل وتكافؤ الفرص، وترتيب منهجية اتخاذ القرار على أسس من قواعد التخصص والشورى والمعلومات.

إن وحدة حماس في أقاليمها الثلاث وأبنائها في السجون يمثل تحديا من نوع خاص، حيث انتقلت حماس إلى عمل موحد يتجسد في مؤسساتها المنتخبة في الأقاليم الثلاث، ولكن هذه الوحدة تحتاج إلى انتقال من مرحلة التنافس غير المعلن إلى التعاون والتكامل وتوزيع الأدوار، وصولا إلى انصهار كلي في بوتقة جمعية تلم شتات الفكر والرأي، والأولوية على قادة التمثيل الكلي لأبناء فلسطين في الداخل والخارج مع إدراك عالٍ وفهم ذكي لخصوصية كل إقليم واحتياجاته، وممارسة الاندماج عالي الهمة بروح الانتماء الجماعي إلى الفكرة والقيمة والمشروع، وتقديم الصالح النافع وتجنب الضار المعطل.

غزة تعيش مرحلة تحد متزايد في استهداف حصار خانق وعدوان متكرر واستمرار محاولات الاستنزاف، ومنها تسارع إكمال الجدار حول غزة فوق الأرض وتحتها، وما زالت غزة تمثل الركن الشديد في معادلة حماس والقضية الفلسطينية، في ظل تعزيز رسالة الجاهزية والقدرة على الإيلام كمعادلة ثبتتها معركة "سيف القدس". التحدي الأكبر في غزة قائم في ظل جولات التصعيد وتحقيق توازن الردع ومدى القدرة على تغيير معادلات الاشتباك، وفي الوقت ذاته مواجهة الحصار والتحرر من منهج إدارة الأزمة واليوميات وتنفيذ تفاهمات تهدئة بشكل رشيد تسند مجتمع غزي صامد ويدفع فاتورة باهظة.

كل ذلك من دون أن تدخل حماس في نفق الثمن السياسي والابتزاز المعيشي والمالي خاصة، ويسجل البعض تأثير الأزمة المالية وضعف الموارد على رشد القرار الحكومي فضلا عن تأثير التدخل في القرار الحكومي. وأيضا استثمار العلاقة مع مصر لصالح تطوير حد الضرورة المعيشي بعيدا عن روح الانصياع، خاصة مع معاناة أهل غزة في الانتقال إلى مصر ومن خلالها. وفي ظل ثقل حماس في غزة ومركز تحركها الوازن ويكاد يكون الوحيد؛ كيف يمكن خلق حالة توازن في ساحات التأثير قاطبة؟

وفي السياق، حكم غزة يحتاج قراءة وتقييما علميا موضوعيا، فالنقد المتداول أحيانا ليس منصفا لاعتبارات كثيرة، أهمها ارتباط التجربة بحصار خانق وملاحقة دائمة، فضلا عن حالة الاستهداف الإقصائية إلى درجة محاولات الاستئصال. ولا يمنع هذا من تسجيل ملاحظات مؤثرة في الأداء والتجربة، حدت كثيرا من قدرة حماس على نجاح تجربتها، وهذا يحتاج إلى تطوير السلوك الرشيد في تجربة الحكم.

التطبيع الذليل مسار يتواصل للأسف في إقليم يتهاوى، ومنها المغرب، وكانت زيارتكم لها محل جدل كبير، وسلسلة السقوط تمثل تهديدا كبيرا للقضية الفلسطينية. وحركتكم المجاهدة اليوم هي رأس الحربة في مواجهة التطبيع، ولم تساوم على موقفها الوطني والأخلاقي تجاه مشروعها التحريري لفلسطين الإنسان والأرض، وسيكتب التاريخ أن حماس كانت صمام الأمان وعمود الخيمة للحفاظ على القضية الفلسطينية في زمن السماسرة وتجار الحقوق والتطبيع الذليل.

حماس أمام تحدي المرحلة، وتعيش ظرفًا قاسيًا، إذ يهرول جزء من الإقليم نحو التطبيع الذليل، والسلطة الفلسطينية تصطدم بجدار سقوط حل الدولتين وانتهاء أوسلو، وأبناؤها يلاحقون في الإقليم، وآخر ذلك الأحكام الجائرة على أبنائكم في الدول العربية. ولذلك تجد حماس نفسها غريبة وحيدة في مرحلة مخاض عسير للمنطقة. والتحدي في إعادة الاعتبار للقضية في ظل التهاوي، وكيف يمكن تحقيقه؟ والثوابت الفلسطينية وسبل المحافظة عليها بالحد الأدنى؟ كيف تحافظ على مسار التحرير في ظل التطبيع؟ وكيف تحافظ حماس على العلاقة مع المحيط والإقليم في ظل التطبيع؟ وسبل مواجهته؟

وأمام حماس كثير من المسارات اليوم، فأمامها السعي لتحقيق الوحدة الوطنية رغم الجراح، وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني عبر إعادة بناء منظمة التحرير على أساس الشراكة الوطنية، وإعادة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية على أساس من برنامج سياسي مشترك متفق عليه، ويندرج ضمن ذلك إصلاح المنظومة الأمنية على أساس من المهنية بعد مشاهد تغولها في الضفة على حقوق الإنسان الفلسطيني، ومثلت جريمة نزار بنات الفصل الأخير، فضلا عن منزل التنسيق الأمني الخطر.

وفي السياق ذاته، يستمر العمل على إنهاء الحصار بكافة أشكاله، ومن ذلك الحصار السياسي، مع استمرار تحمل المسؤولية الإنسانية والاقتصادية عن الشعب الفلسطيني المُحاصَر، وتحميل المسؤولية الإنسانية كذلك للاحتلال والإدارة الأميركية المُحاصِرين للشعب الفلسطيني، وما يترتب على ذلك من معارك قانونية وسياسية تسعى إلى نزع الشرعية عن الاحتلال وكشف السوءة لمن يتواطأ مع الحصار ويتعاون مع المحتل، وما يحتاجه ذلك إلى إبداع جديد واتساع لجبهة المواجهة وقدرة على التحشيد والبناء في الوقت ذاته، وفي هذا السياق تبدو المقاومة الورقة الأقوى في يد حماس وإن تنوعت أشكال المقاومة بين الضفة وغزة ومناطق 48 والخارج، فكلٌ يقاوم على قاعدة إدارة الصراع ووفق منظور المصلحة الوطنية الفلسطينية، والحاجة ماسة لإعادة إنتاج الفرح بصفقة وفاء الأحرار2، بعد 7 سنوات من الحفاظ على أسرى جنود الاحتلال في قبضة المقاومة.

استطاعت حماس أن تبني منظومة من العلاقات الخارجية رغم العقبات الكثيرة التي شابت هذه العلاقة في فترات متقطعة. وكذلك بناء شبكة العلاقات الكبيرة غير الرسمية والشعبية في منظومات العمل غير الرسمي والجماهيري، وكذلك أحدثت حماس اختراقا على جبهات عدة، سواء في ما يخص بعض الدول الأجنبية والعديد من دول العالم التي امتلكت علاقات غير معلنة، وبالتأكيد واجهت حكم حماس في علاقاته الخارجية قضية مهمة، وهي الفيتو الأميركي وشروط الرباعية المتصلبة، ومن المهم في هذا الصدد توظيف الجاليات الفلسطينية بوصفها سفراء في ظل عدم تحمل السفارات والقناصل الفلسطينية دورها تجاه القضية. والحاجة قائمة إلى تثبيت منهجية في بناء العلاقات الدولية على أساس من منظومة محور الحلفاء والأصدقاء والخصوم والأعداء وسبل الانتقال، مما يدعم القضية ويحتضنها، وسبل تحقيق اختراق سياسي لصالحها.

جسدت حماس خلال مسيرتها المتصاعدة المليئة بالتضحية والعنفوان رؤية وطنية حكيمة للعمل الفلسطيني المقاوم السياسي وبوصلتها القدس، ومتشبثة بحق العودة والإفراج عن الأسرى والدولة المستقلة على حدود 1967م، مقابل هدنة مع الاحتلال، وتسعى لإعادة بناء منظمة التحرير على أساس من التمثيل الحقيقي للشعب الفلسطيني، وتقبل بالعمل مع كافة القوى الفلسطينية على أساس من التداول السلمي للسلطة وعدم الارتهان للمواقف الأميركية والإسرائيلية، وتوجت كل ذلك بتقديم نموذج من التضحية والفداء عبر قوافل من الشهداء والاستشهاديين والمعتقلين والجرحى والمبعدين، وعلى رأسهم جيل القيادة الشهيد والفرقان ووفاء الأحرار وحجارة السجيل والعصف المأكول، وسيف القدس خير شهيد.

وفقكم الله وسدد على طريق تحرير فلسطين خطاكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.