شعار قسم مدونات

حينما تفتقر غرفة الإنعاش إلى الأكسجين..

تعلموا فن الكفاح من أجل أوطانكم (غيتي)

لقد اصطدمنا بزمن عانت فيه البشرية من أسوء أزمة وبائية؛ زمن التراجيديا الذي افتقرت فيه فئات كثيرة من العالم إلى التنفس الاصطناعي، حتى أصبحت تتعطش لمكثفات الأكسجين لعلها تنجو من حصار هذا الفيروس، ورغم ذلك يبهرك وجود الاستغلاليين والانتهازيين الذين يلقبون بتجار الأزمة، تجد شهية الشر فيهم مفتوحة، جاهزين لبيع المكثفات وتأجيرها بأسعار خيالية، رغم علمهم أن أغلبية المرضى ماتوا بسبب نقص الأكسجين.

ومن البديهي أننا لا نستطيع العيش الصحيح بدون ماء أو طعام، ولكن اليوم فقدت أوطاننا العنصر الأساسي للحياة وهو الأكسجين، ومع الأسف في كل أزمة هناك مستفيدون يفتقرون لروح الإنسانية لدرجة أنهم جعلوا من آلام البشرية تجارة مربحة، بل تجارة مضحكة مبكية، حتى أصبح من لا يملك المال والنفوذ محرم عليه العيش.

وإني أشفق على هذا الزمن الذي لم أعش مثل أحداثه من قبل، زمن المرض والألم، زمن سلب منا كل شيء في لمح البصر، أصبحنا نسمع أخبار المرض في كل بيت، ونصطدم بوفاة بعد وفاة وجنازة تلوى الأخرى حتى كثر الرحيل دون وداع، وأصبح الكل يحصي موتاهم في فترة واحدة وكأنهم يتساقطون كأوراق الخريف.

حقا في حياتنا لم نر مثل هذا الرعب والهلع الذي أصاب العالم، مثل الذي أحدثه شبح الكورونا، ربما لأننا لم نعش زمن الموت الأسود الذي ظهر في العصور الوسطى؛ فنحن لا نعلم بما خلفه من أزمات مادية أو معنوية، وصحيح أننا كنا نسمع قصصا عن الأوبئة التي سبقتنا، ولكن لم نتخيل بأن يصل اليوم الذي نعيش فيه إلى هذا الوضع القاسي.

أخبرونا أن للوباء عمر لا يتجاوزه، ودورة الطبيعة وعواملها تؤثر فيه وتستنزفه وتؤقلمه إلى أن يفقد قدرته على القتل ويتلاشى، ولكن ما نراه في الكورونا العكس تماما، فكلما مر يوم تولد سلالة جديدة مستعدة للمحاربة بأسلحة مختلفة.

لقد تغير العالم بعد فيروس الكورونا، ففي الماضي كان يضج بالحياة والآن أصبحنا نشعر وكأننا في عالم مغلق لا يتنفس، فلو سألت أحدهم عن هذا الحال الذي نعيشه، سيقول لك إن لي في الحياة كما للناس أماني كثيرة وبودي لو استطعت أن أبيعها جميعها بأمنية واحدة وهي زوال هذا الفيروس لعل هذه العاصفة الثائرة تهدأ.

أصبحنا في زمن قاس تفتقر فيه المستشفيات لمولدات الأكسجين ورغم كل ذلك تجد انتشار تجار الأزمة أكثر مما ينتشر فيروس الكورونا بحد ذاته، وأصحاب القلوب المتصدأة الذين ازدهرت أحوالهم لما جاعت ومرضت أوطانهم.

فكل حاكم تجاهل هذه الأزمة وكل استغلالي جعل منها ذريعة لسد حاجياته، وستمر الأيام وستتذكرون هذا الشريط الذي كنتم فيه تُتاجرون بحياة الناس، فكل هذه الأرواح التي تتساقط ما هي إلا أمانة في رقابكم.

جرب أن تدخل لغرفة الإنعاش؛ حينها ستشعر برعدة تمشي في جميع أعضائك، وكلما اقتربت من الغرفة تزيد نبضات قلبك إلى أن تصطدم بمكان موحش ومهتز  بأنفاس المرضى، حينها سترتجف قدماك وتفقد توازنهما، وستندهش في تلك المعركة القائمة بين الروح والجسد التي يخوضها المرضى لاحتياجهم إلى زيادة ضغط  الأكسجين لعلهم يبصرون نور الحياة مرة أخرى، تصور أن تجد مريضا يصوب النظر نحوك وكأنه يقول لك انقذني من مخالب الموت وأنت ليس في وسعك فعل شيء، حاول فقط أن تجرب ليلة واحدة في تلك الغرفة الموحشة مع الممرضين،  فكلما انتصف الليل تجدهم ينامون برهبة، حتى القمر يطلع ناقصا ضئيلا كئيبا بين النجوم كوجه ميت شاحب، غارق في المساند السوداء بين شموع ضئيلة تحيط بنعشه، وهائم في عرض السماء، فتهجر أجفانهم النوم كلما سمعوا حشرجة الموت ترن في هدوء الليل وسكونه في صدر مريضهم، حتى أضعف القنوط بصيرتهم فلا يرون غير أشباحهم الرهيبة ويصم اليأس آذانهم فلا يسمعون غير ضربات قلوبهم المضطربة كلما لمحت لهم أجنحة الموت لمرضاهم، حتى دب اليأس في نفوسهم دبيب المنية في الأجل.

تذكرني إحدى الممرضات التي ذبلت زهرة حياتها قبل أن تتفتح ودبت إلى الشيخوخة وهي لا تزال في ريعان الشباب، وانطفأ ما كان مشتعلا في قلبها من الهمة وفي رأسها من الذكاء لشدة الضغط النفسي الذي تشرب منه كلما ارتفعت نسبة المصابين وزادت الحالة سوءا. كانت متكئة ورأسها على جدار الغرفة وقطرات باردة من العرق تنحدر من جبينها على وجهها، وكأنها في حال ذهول من هذا الوضع رغم محاولتها إنقاذ مرضاها، ولكن لا مجال من فعل شيء، فكل ما في الأمر هو افتقارهم للأكسجين، وهذا يرجع لأصحاب السلطة أن يعيدوا النظر في الوضع وأن يضعوا خططا متزنة لتوفير كميات كافية من مولدات الأكسجين.

تعلموا فن الكفاح من أجل أوطانكم، فتدهوركم الأخلاقي الذي جعلكم تستغلون الظروف الإنسانية الحرجة لتحقيقكم أرباحا كبيرة وتحسين الوضع الاقتصادي في أقصر وقت؛ لن يأخذكم لأبعد مكان، فارحموا من يسهرون منهمكين على مرضاهم وأعطوهم القوة ليعطوا جهودهم، وأعطوا عونا كافيا لأمتكم لعلها تقضي على أزمة الأكسجين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.