شعار قسم مدونات

جيل السبعينيات والثمانينيات.. جبال من الذكريات

من كان قبل جيل السبعينيات من أجيال كثير منهم على قيد الحياة الآن إلا أن تعلقهم بحياة اليوم وحداثتها بسيط لا يؤثر في سير حياتهم (الجزيرة)

 

إذا كنت من مواليد أوائل السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات فأنت بلا شك من القلائل الذين عاشوا حياة فيها كثير من الأمور التي لم ولن يعيشها غيرهم أبدًا، وأنت من المقاتلين الذين جاهدوا من أجل أن لا يصابوا بالانفصام أو الجنون، ذلك أن هذا الجيل هو الوحيد الذي شهد انتقال الحياة بكل تفاصيلها من مرحلة إلى مرحلة أخرى مختلفة تمامًا، وهذا العبور بين حقبات الزمن كان يرافقه مخزون من الذكريات والأفكار رسمت لوحة في عقولهم يصعب على "بيكاسو" أن يأتي بمثلها أو أن يقلدها لأن فيها من التنوع والتعقيدات ما يجعل المرء يقف أمامها مشدوهًا في حيرة من أمره، يتأمل تفاصيل المكان فيها ليزداد حيرة، ويتأمل تفاصيل الزمان فيها فيتعجب من قدرة أصحابها على تحمل ثقلها بكل ما فيها، ثم ينهار الناظر إلى تلك اللوحة حين يرى تقاطعات الخطوط العاطفية والوجدانية فيها ومدى العشوائية التي تحملها، ورغم ذلك فلن يشعر بمعاناة حملها الثقيل إلا أصحابها لأنهم يعلمون أن جبل الذكريات الجاثم في العقل والوجدان لن يبرح مكانه حتى تغادر أرواحهم إلى خالقها.

 

من كان قبل جيل السبعينيات من أجيال كثير منهم على قيد الحياة الآن، إلا أن تعلقهم بحياة اليوم وحداثتها بسيط لا يؤثر في سير حياتهم، فاستخدامهم للتكنولوجيا محدود، وهواتفهم غالبًا ما تكون من النوع التقليدي ولا يرتضون استخدام الإنترنت ويفضلون جلسات الأصدقاء التي تملؤها الحكايا المكررة أكثر من الجلوس على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن جاء بعد جيل الثمانينيات من أجيال ما إن ترعرعوا حتى كانت التكنولوجيا والحداثة تحاصرهم من كل جانب، فأصبحت هي نواة ذكرياتهم، وتأخذ الحيّز الأكبر من حياتهم، لذلك فحياتهم اليوم ما هي إلا امتداد لطفولتهم وشبابهم، أما أولئك المساكين بين الجيلين فإنهم كحورية البحر نصفها بحري والآخر برّي، أرواحهم محتارة دومًا ما بين ذكريات طفولتهم في زمن شبه انعدام التكنولوجيا والاتصال، وما بين حياتهم الآن والتكنولوجيا حولهم في كل مكان، تراهم في كثير من الأحيان يتجولون في ماضيهم من أجل استعطاف لحظة من اللحظات ليبتسموا لكن ابتسامتهم لا تدوم طويلًا، إذ يعكرها حاضرهم الممتلئ بالسرعة والإرهاق فلا يملكون إلا إغلاق كتاب ذكرياتهم رغمًا عنهم علّهم يعودون له إن أتاحت لهم هذه الحياة الفرصة لابتسامة جديدة.

 

جيل كان له الكتاب هو الرفيق والمذياع هو الصديق لأنه مصدر أخبارهم في النهار، ونديمهم في سهراتهم إذا ما جنّ الليل حتى تغفو عيونهم ويغلبهم النعاس ليمدّوا أيديهم في آخر لحظات الصحو ويغلقوه، ولا تكاد أيديهم تعود إلى مكانها إلا وقد غرقوا في نوم عميق، ولكن ذلك الصديق المسكين فقد أهميته لدى محبيه عندما جاء ذلك الزائر الذي بدأ يلج إلى البيوت شيئًا فشيئًا وكانت فرحة دخوله أي بيت لا تعادلها فرحة لأن التلفاز جاء بصوت كالمذياع ترافقه صورةٌ متحركة ليسلب العقول ويتربع على عرش المنزل، حتى إن الاقتراب منه ممنوع قطعيًّا ويُغطى في حالة إغلاقه للحفاظ عليه من الغبار، ويتم التعامل معه بكل رفق ولين كأنه طفل العائلة المدلل، وكان مصدر التفاف الجميع حوله ينتظرون بدء البرامج التي كانت تمتد في البدايات إلى ساعات قليلة من اليوم، قناة واحدة أو اثنتين وبلا ألوان هي كل ما في هذا الصندوق الكبير لكنها كانت تكفي لذلك الجيل من أجل الاستمتاع بكل دقيقة أمامه، والآن يعجز العقل عن تصور حجم القنوات الموجودة لدرجة أن الفضاء ازدحم بها وما عاد يتسع لها، ولكنها كثرةٌ بلا فائدة، فالمحتوى ذو مضمون فارغ وأفكار مشوّهة إلا قلة منها، أما الصحف الورقية فكانت قديمًا سيدة الإعلام بلا منازع، توزّع كل صباح في أروقة الحارات وتباع في المحالّ الصغيرة، يتهافت الناس على شرائها لتنفد عند الظهر أو قبل ذلك، لها استخدامات كثيرة ومتعددة فهي تُقرأ في يوم صدورها، ثم تُحلّ كلماتها المتقاطعة والضائعة، وكان من الإجرام استخدامها سفرة للطعام في اليوم نفسه لكنها ترضى بالأمر الواقع بعد أيام عندما تفقد قيمتها بصدور أخياتها في الأيام التالية، كنا نقرأ حتى ونحن نأكل أما الآن فالبطون امتلأت لكن العقول فارغة والأرواح خاوية.

 

جيل السبعينيات والثمانينيات عاصر الهواتف الأرضية ذات الأسلاك، وكان يستمتع بإدارة قرص الهاتف من أجل أن يطلب رقمًا لوالده مكتوبًا في ورقة صغيرة أو في دفتر متهالك بجانب الهاتف، وكانت قمة متعته إذا رن جرس الهاتف لينطلق الجميع بسرعة من أجل نيل شرف الرد على المتصل وغالبًا ما كان يحدث الشجار عندما تقبض الأيدي معًا على سماعة الهاتف، لتتغير نبرات الصوت عند الرد وتتسم بالوقار والاحترام وبعد ذلك تتغير ملامح الوجه مع جملة "النمرة غلط" وسط متابعة الجميع من أجل معرفة المتصل. ثم تبدلت الأحوال وتغيرت الأمور وبدأ هذا الجيل البائس يتابع تطور الاتصالات والهواتف حتى صارت إلى ما هي عليه الآن، ولكنه أبدًا لن ينسى ذلك القرص وتلك الرنة وسيبقى دليل الهاتف ذو اللون الأخضر عالقًا في ذاكرة الجميع.

 

هذا الجيل لم يكن يعرف "MP3" ولا "WAV" بل كانت الأغنية في نظره هي شريط الكاسيت الذي يُباع على بسطات صغيرة في مواقف الباصات، أو في محال الكاسيت المنتشرة في الأسواق، حيث كانوا يقفون أمام واجهاتها الزجاجية لتفحص ملصقات الأشرطة الجديدة وتلك كانت حجة لاستراق السمع إلى بعض الأغنيات الصادرة من الداخل حتى تُتاح الفرصة لشراء شريط الكاسيت المفضل الذي كان يحتاج إلى بعض من مهارات المحاسبة والميزانية، وعندما يحالفه الحظ ويفوز ببعض الدعم المالي في المصروف اليومي من الأسرة يأتي إلى المحل ذاته بكل ثقة فلا يقف أمام الواجهة بل يدخل مزهوًّا بنفسه لأنه يملك ثمن الشريط في جيبه، ليعود إلى بيته ويتفحصه قبل أن يضعه في جهاز التسجيل ويسافر معه إلى عالمه الذي بات اليوم مجرد ذكريات، أما أسوأ المواقف فكانت إذا تعطل الكاسيت وتشابك شريطه ذو اللون البني ببعضه بعضا، فلا بد حينئذ من اتخاذ حالة من الطوارئ والاستعداد لحل تلك المشكلة، فيبدأ بإحضار الأدوات اللازمة والاستعداد لإصلاحه، وكان التحضير والتركيز في العمل كأنه طبيبٌ جرّاح يجري عملية معقدة لكن الابتسامة والافتخار يعودان من جديد عند الانتهاء وإصلاح الكاسيت وسماع الصوت مرة أخرى من جهاز التسجيل، أما الآن فأصبحت الأغنية بلا ثمن مادي ولا وجداني لأننا فقدنا لذة التعب في الوصول إليها، ولأن الأذن قد أصابها التشوش والأذى من قباحة ما تسمع، حتى أصبحنا نستمتع برؤية شريط الكاسيت القديم وإن كان فارغًا أكثر من متعتنا بسماع أصوات هذا الزمن المشوّهة.

 

جيل السبعينيات والثمانينيات كان المشي على الأقدام هو قدره الذي لا مفر منه، فمناطق بأكملها لم يكن يوجد بها إلا سيارات بعدد أصابع اليد الواحدة، فلا نحن عشنا زمنًا بلا وسائل نقل ولا نحن ولدنا في زمنٍ المركبات فيه أكثر من البشر، بل من قدرنا أننا هنا وهناك، تنقلنا بكل شيء حتى الدواب، وعشنا زمن المشي وزمن الحافلات وزمن المركبات وزمن الطائرات، ومن السخرية أننا قد نعيش زمنًا قريبًا تصبح فيه الرحلة إلى القمر كالرحلة إلى المدينة المجاورة، وكالعادة لم يسلم حتى تنقلنا من بعض الذكريات التي لا تنسى؛ كنا نجلس في الحافلات ساعات ننتظر الركاب حتى ننطلق، والآن تقف طوابير الركاب تنتظر الحافلات حتى تأتي، والمضحك أن الزمن أعاد نفسه مع سيارات الأجرة التي كنا نطلبها بالهاتف لتصل إلى باب المنزل، والآن نطلبها أيضًا بالهاتف لتصل إلى باب المنزل عبر التطبيقات الذكية، ولكن الفرق أننا قديمًا كنا نقضي رحلتنا بالتركيز في الطريق مصحوبًا بعبارات: بعد أول يمين، بعد المسجد يسار، أمام البقالة، أما الآن فنقضي رحلتنا منحنين أمام هواتفنا وأقمار في الفضاء تقودنا إلى وجهتنا.

 

جيل السبعينيات والثمانينيات شهد ولادة الحاسوب وطفولته وشبابه، وعاصر جميع مراحل تطوره وتابع الطفرة التكنولوجية الهائلة التي حدثت له، منذ أن استخدمه بنظام "DOS" والأوامر المكتوبة مرورًا بنظام "Windows" حتى الوصول إلى ما هو عليه الآن، وبعد أن كان الحاسوب يُستخدم فقط للعلم والتعلم أصبح الآن أكسجين العالم الذي لا يستطيع أحد الاستغناء عنه، وبعد أن كنا نخاف الضغط على أحد أزرار لوحة المفاتيح خشية حدوث انفجار في جهاز الحاسوب أصبحنا الآن نستعمله بكل مهارة وسهولة، وكما كنا نستغرب عندما نرى شخصًا متمكنًا في مهارات الحاسوب ونقف أمامه مشدوهين من مهارته في فتح مستند "word"، فإننا الآن نستغرب أيضًا إذا شاهدنا أحدًا لا يجيد استخدام الحاسوب ببرامجه كافة، متناسين أننا كنا في أحد الأيام نتسمّر أمام شاشة الحاسوب الزرقاء عند تشغيله من أجل رؤيتها وهي تضيء.

 

كل شيء تغير، تبعثرت أفكارنا وتصارعت جوارحنا، وأصبحت ذكرياتنا هي الملاذ الوحيد لنا من أجل الشعور بالحياة، حتى المبادئ تغيرت والقيم اندثرت، بل إن بقايا الأخلاق تلاشت حتى بدت كشمس لحظة الغروب تغرق خلف بحر من الانحطاط؛ يا ليتنا كنا قبل ذلك فلا نرى هذا التحول الكبير في حياتنا، أو بعد ذلك فنولد وكل شيء من حولنا كما هو الآن، أما أن نتابع كل ذلك ونعيشه لحظة بلحظة وسنة بسنة فهذا ما يصعب على المرء أن يمحوه من داخله، نحن جيلٌ يعاني فكريًّا ونفسيًّا، ويكابد من أجل الحفاظ على توازن ذاته، نحن جيلٌ تملأ العشوائيات روحه وتتحكم الذكريات في فرحه وابتسامته، نحن جيلٌ لم يستطع نسيان جمال الماضي، ولم يستطع خلق جمال حاضره القاسي، كأننا عصافير تحوم في سماء اليوم ليلًا نهارًا، حتى إذا ما أنهكها التعب واستراحت في أعشاش الأمس لحظات باغتها الحاضر وانقضّ عليها لتعود إلى التحليق، ويا ليته ينتهي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.