شعار قسم مدونات

الحاكم وريث الحكم والدولة بصوت الشعب والدستور..

blogs - الربيع العربي
من أهداف الدستور الفاعلة والحقيقية، تحديد طبيعة الدولة ملكية كانت أو جمهورية، وما نظام الحكم فيها سواء كان برلمانيًا، أو رئاسيًا، أو مختلطا. (غيتي)

 

تمثل فكرة الدستور، أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في تنظيم شؤون الحياة، وفق إطار توافقي محدد يعبر عن أهدافه ومصالحه المشتركة، ولذلك يعد الدستور من أهم ركائز بناء الدول الحديثة، ومن أهم ما توصل إليه الإنسان في تنظيم إدارة شؤون الدول وحياة الشعوب. يحقق الدستور مبتغاه إذا كان مُعبرًا ومتوازنًا ووفق مصالح مشتركة، ويكون قادرًا على حفظ وضمان الحقوق والواجبات بين النظام السياسي والشعوب، والأهم هو أن يكون وثيقة محل توافق من الجميع، وبذلك يكون قادرًا على تنظيم شؤون الحكم وتنظيم علاقاتها بالأفراد من خلال قواعد الدستور.

 

فالديمقراطية والحكم المدني المبني على احترام نصوص الدستور هما سمات الشعوب المتقدمة، ورغبة تتطلع إليها الشعوب في دول العالم الثالث، الربيع العربي علي سبيل المثال؛ لذلك تناضل هذه الشعوب من أجلها، وتحاول الاستقلال وتحقيق الديمقراطية، ونجد أن هذه السمة سائدة في مجتمعات منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا دول العالم الثالث، التي تعاني من إشكالية إرساء الديمقراطية وفقًا لدستور مدني متزن يحمي حقوق الجميع، ويشمل ضمانات حقيقية من ممارسات دكتاتورية الحاكم والحكم الاستبدادي والفردي تجاه المحكوم.

وهناك شعوب تناول التاريخ نضالها وكفاحها الطويل والمرير من أجل نيل استقلالها وتحقيق الديمقراطية وكتابة دستور يصون كافة الحقوق، ويوضح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وطبيعة نظام الحكم. وأحد أهم تلك الشعوب الشعب المصري، ويرجع تاريخ الدستور المصري إلى أكثر من 137 عاما، حيث صدر أول دستور عام 1882، خلال عهد الخديوي توفيق. وبعد وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني، قامت سلطات الاحتلال بإلغاء ذلك الدستور، وكانت هناك أيضًا محاولات سابقة لهذا الدستور، في إبان عهد الخديوي إسماعيل عام 1879، وظل الدستور المصري محل تجاذب بين الحاكم والمحكوم، إلى أن وصل إلى مرحلته الأخيرة بتعديلات عام 2019.

 

وللأسف الشديد، كانت معظم التعديلات الدستورية في مصر وغيرها من بلدان الشرق الأوسط ودول العالم الثالث وآخرها تونس -وصدمتها الديمقراطية رغم أن رئيسها منتخب- تصب في مصلحة الحاكم، وتتجاهل رغبة وحقوق المحكوم، بل تقوم على توطيد ديكتاتورية الحاكم، وتحويل صفة الحاكم من كونه موظفا في الدولة، إلى وريث الحكم والدولة، ومن هنا يكون نسف قواعد الديمقراطية التي كافح وناضل الشعب من أجلها.

فمن أهداف الدستور الفاعلة والحقيقية، تحديد طبيعة الدولة سواء أكانت ملكية أم جمهورية، وما نظام الحكم فيها سواء كان برلمانيا، أو رئاسيا، أو مختلطا.

ويقوم على تناول السلطات الثلاث (تشريعية، تنفيذية، قضائية) من حيث اختصاصها، وتشكيلاتها، وطبيعة علاقتها مع الدستور. كما يقوم بتحديد شكل العمليات السياسية وتفاعلاتها الديمقراطية، ويقوم برسم الهيئة الإدارية للدولة، وفلسفة الحكم المحلي، أما من الناحية الحقوقية، فينص الدستور على حريات الأفراد الدينية، والسياسية، والمدنية، والفكرية، وينص على جميع حقوقهم.

ومن الناحية القانونية، يعد الدستور المرجعية الأساسية للتشريعات والقوانين كافة، ويجب ألا يصدر أي قانون يتناقض مع مبادئ الدستور، ويقع الدستور في قمة الهرم الخاص بقانون الدولة، ويقوم أيضًا على توضيح الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للأفراد، وما دور الدولة في تنظيم النشاط الاقتصادي الذي يحقق التوازن بين مصلحة المجتمع والفرد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويعمل على توثيق الهوية والشخصية المتفردة للدولة، ويقوم على وضع الضمانات التي تقوم بحماية الدولة، واللغة، والقيم الأساسية، والمرجعية الروحية.

 

أما في دول العالم الثالث فكل شيء مباح بالقانون والورق، وبتزوير إرادة الشعوب، عن طريق المال السياسي، والوعود الزائفة التي لا علاقة لها بالقانون أو الدستور، وتصل حتى إلى المتاجرة بأحلام البسطاء، من خلال الوعود بوظيفة أو راتب تقاعدي أو مصلحة شخصية، فتُحول السلطة الحقوق الأصيلة التي يحفظها الدستور للجميع إلى هبات وعطايا من الدولة، مستغلة بذلك الفقر والجهل والمرض وحاجة المجتمع.

في هذا السياق، أذكر هنا حوار الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع كاتبه المفضل أنيس منصور، بعد زيارتهم لإسرائيل لأجل معاهدة السلام المزعومة، فيعرض أنيس منصور تعليق الرئيس السادات على الشارع الإسرائيلي عندما رأى الوفد المصري بهذه الكلمات "ستمر هذه المهمة بسلام وبنجاح، أتعرفون لماذا؟ لأن الشارع الإسرائيلي استقبلنا بحفاوة بالغة، فالحكومات هنا تحكم من رغبة الشعب واحترام إرادته، أما نحن فندفع للشعب لتمرير أي قرار، فينزلون إلى الشارع ويهتفون بالروح بالدم نفديك."

وإلى الآن تستمر هذه التمثيلية وتدفع الحكومات للشعوب، من أجل ديمقراطية شكلية وإرساء دستور شكلي لترسم صورة مزيفة أمام القوى والمجتمع الدولي، الذي يدعم الديمقراطيات الورقية في دول العالم الثالث، ليحافظ على مصالحه ويوهم الشعوب بأن لديهم دولة ديمقراطية حقيقية، ولكن في الحقيقة تدفع الشعوب ثمن ذلك، فتوافق على دستور يأسس لدولة الفرد الحاكم بأمر الله لا لدولة المؤسسات، تؤسس دستورا شكليا يحافظ على حقوق الأغنياء ويدهس بطون الفقراء ليل نهار، دستور يُورث الحكم والدولة للحاكم، ولا يراعي أن هذا الحاكم يجب أن يكون أمينا عاقلا عاملا متعلما صاحب فكر ورؤية وطنية مخلصة، وأيضًا تؤسس دستورا بإرادة الحاكم ووفقًا لرغبته ومصلحته الفردية، ليس وفقًا لإرادتها النابعة من المصلحة الوطنية والعامة، تؤسس دستورا تفقد الدول بسببه سلطتها الحقيقية وسيادتها، ويحرمها من حكومات وطنية، فكل ما تريده حكومات هذا النوع من الدول هو فقط شراء أصوات الشعوب المقهورة بثمن بخس وبدراهم معدودة.

 

لذلك يعمل حكام دول العالم الثالث على تزوير إرادة الشعوب بكل قوة، ليس من أجل البناء والنهضة، إنما من أجل استكمال شكل الدولة الفاقد للمضمون، حيث الدستور حبر على ورق، والديمقراطية شكلية مزيفة تابعة لرغبات القوى الدولية ومصالحها بأيادي نحسبها وطنية.

ويبقى السؤال.. متى نرى حكومات وطنية تحترم الدستور وإرادة الشعوب في دول العالم الثالث؟

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.