شعار قسم مدونات

حدثَ في يومٍ عادي من حياتك..

جرأة المصريات في تصوير وقائع التحرش.. تغير ثقافة أم كيل فاض؟ (الجزيرة)

 

أَوقفتَ إحدى الحافلات وجلستَ في آخر كرسي لكي لا يراكَ أحد، فما أنت مُقبلٌ عليهِ غيرُ مقبول أخلاقيًّا أو بالأصحّ غير طبيعيّ، وربما يُظنّ بكَ ما لا تحمد عقباه.

انطلق السائق. بعد دقائق أو ربما ثوانٍ كلُّ من في الحافلة فجأةً التفتَ ناحيةَ الرصيف في تناسقٍ مُذهل، ذكّركَ الأمر بانتظامِ لحظة السجود في صلاة الجماعة. تُخمّن "آه.. يبدو أن فتاة تتمشى على الرصيف". الشيخُ الستّيني ومن يجلس بجانبه والطالبان الجامعيان أمامك وحتى السائق، ظلّوا يحملقون حتى أصبحتَ أنت محطّ نظرهم (أتذكر لقد جلست في آخر الحافلة)، لا تقلق أنت غيرُ مرئيٍ لهم، ما يريدون رؤيته يكمُن وراءك.. تريد أن تصرخ في السائق الذي أصبح ينظر في الجهة المعاكسة للطريق "ستقتلنا يا هذا، انتبه أمامك". تعودُ أعناقهم إلى حالتها الطبيعية وكأنّ شيئًا ما كان، واعوجاج الأعناق هذا طبيعيٌ بحت.

يبدأ الطالبان أمامك بوصف ما شاهداه بدقة وبصوتٍ عالٍ أما الشيخ فتسمعه يتمتم؛ ربما كان يستغفر. وفي أحوالٍ أخرى -عاديةٍ أيضًا- قد يقف السائق في نصف الشارع ويخاطبها ببعض الكلمات المشينة ثمّ يكمل طريقه دون أن يثيرَ هذا استغراب أحد. لن تفهمَ أبدًا إن كان ثمة معنى من هذا كلّه، تعرف أنّه لا يظن مثلًا أن الفتاة التي في عمر ابنته ستقع في حبه وتبادلهُ رقم هاتفها بعد القذارة التي قالها، ولكنّه سيبقى يفعلها كلّ يوم.. ما دام سيُحيّا ويبجّلُ تصفيقًا وضحكًا على فعلته، أوليسَ هذا ما يطلقون عليه مصطلح الرجولة؟

 

أمام أحد المطاعم تنتظر طلبيتك، تمرّ أمامك امرأةٌ ما كادت تغيب عن ناظريك حتّى سمعتَ أحدهم يصرخ بأعلى صوته: "ما أجمل جسمك!".

تشعر بحرٍّ شديد رغم الجو البارد وتحاول أن تتخيل شعورها لكنك تعجز. تلتفتُ لتراهُ يتبعها والكل يراقب. بعضهم كان يضحك أما أنت فبقيتَ حائرًا.. ألا يجب على أحدهم فعل شيء؟ تحاور نفسك "ألستَ أحدهم يا جبان أم أنك لمجرد أنّك لا تنظر مثلهم عددت نفسك مختلفًا عنهم؟ تبًا لك من منافق".

 

أهذا ما تُعنى به نظرية "الجهل الجمعي"؟ الكل ينتظر أن يقول أحدهم شيئًا ما لكي يفيقوا وينهالوا عليه بالشتائم لكنك تفكر: ماذا لو كان "بيب لاتان و جون دارلي" مخطئيْن هذه المرة؛ طبعًا لا تقصد النظرية كليًّا لكن ماذا لو أن اللحظة هذه تعبّر عن جزءٍ لا يتعدى احتماله 0.001%، فأنت تعرف أنه لا وجود لـ100%.

ماذا لو انتهى الأمر بهذا الوغد الذي يكاد يخرج من ملابسه من شدة الضخامة بتهشيم وجهك بعد ذلك؟ ستذهب إلى المخفر وستُلام من قِبلهم كلّهم حتى رجال الشرطة سيقولون إن الأمر لم يكن يعنيك.

 

في الجهة المقابلة من الشارع.. الوغد ما زال يتبعها، تزدادُ حيرةً "من المؤكد أن هذا الكائن يعرفها وإلا لماذا لم تقل له أن يتوقف عن ملاحقتها" لكن كيف؟ حتى إن كان يعرفها لم يكن له أي حق في أن يقول لها ما قال.. تتعفّنُ بحيرتكَ وهم يتوارون عن الأنظار.

تتساءل: ما شعورها؟ هل هو مشابهٌ لما نحس به حين نعرضُ بحثًا ما.. ذلك الشعور عندما تكون جميع الأنظار منصبّة عليك وحدك.. أكيد لا، ما هذا الغباء! حسنا ماذا لو كنتَ تقدّمهُ عاريا تماما والكل يسخر منك، تبًا حتى هذا.. لا شيء يمكن أن يضاهي ذلك الشعور..

هل من الممكن أصلًا أن نحسّ بما يشعرن؟ تكاد تراه مستحيلًا..

 

الساعة الثانية عشرة بعد الظهر، من الأوقات الأكثر اكتظاظًا، تمشي في أحد الشوارع الضيقة؛ النوع الذي يجب عليك أن تتوقف جانبًا كلما مرّت سيارة وتلتصق بإحدى السيارات المركونة بجانب الرصيف وإلا انهالوا عليك بالشتائم لأنّ حياتك تكلفهم بضع ثوان من وقتهم الثمين.

تضطر إلى أن تمشي على الرصيف، تكرهه لأنك الآن ستزاحم الناس. قد يصل ببعضهم أن يدفعك، لن تفهم أبدًا إن كانوا بالفعل يتوقعون منك أن تطير فوق كل من أمامك.. حدث ما كنت تتوجّسُ منه، أمامك مباشرة فتاة يبدو عليها التوتر والقلق، تواصل النظر يمنة ويسرة كأنها تتمنى لو أن عندها عينين خلفيّتين تراقبك بهم. تحاولُ الإسراع لتتخطاها وبينما تبحث عن منفذٍ تنزلُ هي عن الرصيف كأنّ أحدًا يطاردها. يبدو أن مزاحمة السيارات والوقوف كل ثانية أكثر أريحية لها من أن تمشي أمام أحد "المفترسين". تمنيتَ حينئذ لو استطعتَ أن تناديها وتقسم لها أنك لم تكن تفعل أي شيء وراءَ ظهرها وتعتذر إليها ليس فقط لأنك كنت تمشي وراءها بل نيابة عن كل وغد قذر كان سببًا في أنها لم تعد حتى تستطيع أن تمشي على الرصيف إلا وهي في هذه الحالة من الذعر.

المشي وراء فتاة في الشارع ربما يكون من أكثر الأمور إثارة للقلق.. تلك الثواني التي تسبق المرور بجانبها، التي قد تبدو للآخرين أنك في ماراثون للمشي، تدور في عقلك شتى السيناريوهات فأنت في تفكيرها ربما تكون مُسبّبًا للأذى، متحرشًا أو حتى مغتصبًا إذا أتيحت لك الفرصة. قد يبلغ بك الأمر أن تسلك شارعًا آخر، حتى لو كان بينك وبينها عشرات الأمتار فقط لتتجنب تلك السيناريوهات التي ستدور في رأسك ورأسها.. من يمكن أن يلومها في كل ذلك وهي تعيش في مجتمع يعتقد أن التحرش بها هو انتصارٌ للدين وتعزيزٌ للرجولة؟

اعتاد الأمر أن يزعجك منهنّ، قبل أن تريك صديقة عزيزة على قلبك بحنكتها وحكمتها المعتادة مدى غبائك وسطحيتك.
قليل من كثير.. ومجرد ما تراه في الأماكن العمومية من أناس لا تعرفهم يجلبُ لكَ السخطَ، فما بالك بما يحدث في الأماكن الأخرى (العمل، المنزل، إلخ..)؟ وما يزيد الأمر غرابة وإثارة للحنق هو أنّهم ما زالوا يلومون طريقة لبسهن، فترى بعض كبارهم يشبّه جسد المرأة بالسيارة التي يجب أن يغلقها صاحبها حفاظًا عليها من السرقة.. بهذا المنطق الغبي نفسه؛ هل عمرك رأيتَ سارقًا يبحث عن سيارة مفتوحة ليسرقها؟ هو فقط يبحث عمّا يسرقه.

أصبحت تراهم الآن يلبسون البذلات وينمقون كلامهم لكي يظهروا أقل شدّةً وأكثرَ تسامحًا و تقبّلًا للآخر ولكنهم ما زالوا يحفظون الكتب نفسها ويدعُونَ إلى الفكر المُمنهج نفسه وليس بالدين..

وهم لا يختلفون كثيرًا عن من يحاربونهم، فكلٌّ يستغل إحدى الفواجع ليروّج لأيديولوجيا معينة، يكثرُ الصراخ وتضيع القضية في لانهائية الصراع.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.