شعار قسم مدونات

البعد الروحي في الزخرفة الإسلامية

التاريخ الإسلامي - تراث - الأندلس
التاريخ الإسلامي - تراث - الأندلس (مواقع التواصل الإجتماعي)

 

جاءت دعوة القرآن إلى التأمل والتبصر في الكون وآياته حافزا لتهذيب الذوق وتنمية الحس لدى الإنسان، من أجل السمو به إلى مراتب عليا في هذا الوجود، فكان للعلاقة بين المعتقد الديني الذي أساسه فكرة التوحيد ونظرة الإنسان المسلم إلى الطبيعة أثر كبير في نشأة فن الزخرفة الإسلامية ورسم حدودها وأبعادها، كذلك أسهم انتشار الإسلام واستيعابه مختلف حضارات الشعوب الوافدة وثقافاتها إسهاما فعالا في تطور هذا الفن وإثرائه على مرّ العصور، حتى بات فنًّا قائما بذاته في شكله ومضمونه، يحمل في طياته الفلسفة الجمالية للأمة الإسلامية، ويعكس مفاهيمها الفكرية والروحية في بناء إنسان سوي محكوم بالتوازن بين العقل والروح والجسد جميعها تعمل داخل الفرد بتناسق وانسجام، وهو حال عمل الأفراد في مجتمعهم.

 

وتعدّ الزخارف الإسلامية وسيلة تجميلية استخدمت على نطاق واسع في حياة الناس وعلى طول المجال الجغرافي الذي امتد عليه الإسلام عبر التاريخ لتعكس رغبات المسلمين في عيشة تتسم بالجمال والزينة، تمظهرت في المسكن والأثاث و اللباس والكتب وغير ذلك من متاع الحياة، وغالبا ما تتكون الأعمال الزخرفية من أشكال هندسية كالدوائر والمثلثات والمربعات، أو من عناصر طبيعية نباتية كالأوراق والأزهار وأغصان الأشجار، أو من الخط العربي المشبع بالمعاني الأدبية والدينية (الحروف والكلمات والآيات القرآنية)، كل هذه العناصر المختلفة يوظفها الفنان في لوحاته وفق نظام خاص قائم على التداخل والتكرار والتناظر على نحو منتظم ومتناسب من حيث الوضعية والحجم والكثافة وحسن التوزيع على المساحة وملء الفراغ، حتى تتحول كل المساحات إلى إطار يزخر بالمتعة التصويرية، ويشع جمالا وجاذبية، فيبلغ بذلك عمل الفنان أرفع ذرى التجريد وقمة التعبير عن الحس الوجداني الصادق للمسلم، وهو ما يبعث في المتأمل في هذه الرسوم الزخرفية، بوصفه إنسانا يحمل في ذاته ما يحمله من معاني المطلق، الرغبة في البحث وراء هذه الصور، ليلج في تأمله إلى عالم أكثر إطلاقا، وهو مع ذلك في جوهره المادي لا قيمة له، وليس إلا جزءا كمثقال ذرة غبار في هذا الكون الفسيح، خلا ما يكتنزه من جوهر مستمد من الذات العلية كما عبرت عن ذلك مقولة العالم الصوفي محيي الدين بن عربي:

وتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وفي كل العصور التي مرت بها الأمة الإسلامية ظل فن الزخرفة ببنيته المكانية، ككل الأشغال الفنية الأخرى تقريبا، محافظا على طابعه الموحد في مختلف الأمصار، فعلى الرغم من البعد الجغرافي والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم الإسلامي فإنك تكاد تلحظ التشابه والتقارب بين زخرفة على جدران قصر الحمراء في إسبانيا، ونموذج من الزينة على آنية في إيران، وتخطيط على صفحات كتاب قرآن في مصر، ونقش على خنجر يمني، وسمات التشابه والتقارب هذه تعود بطبيعة الحال إلى تأثير الخصائص الروحية الإسلامية وانعكاسها على هذه الآثار بصورة تجريدية تعبر عن فلسفة عقائدية مرجعها فكرة التوحيد.

وهذه الخصائص المميزة للفن الإسلامي عموما جعلت الزخارف تتجاوز المظهر الخارجي الذي يدرك بالعين المجردة، فتبدو كأنها صورة للفضائل التي تحملها روح الفنان المسلم المجبول على الترتيب والنظام والإتقان، كل ذلك مبعثه جمال باطني لا يدرك إلا بالقلب، وبمجرد النظر في زخرفة على أثر من تلك الآثار الخالدة تتحول تلك النظرة إلى معراج للوصول بالنفس إلى حقيقة الجمال وفلسفته، وهذا النوع من الجمال غير المادي لطالما شغل الخاصة من علماء هذه الأمة فبحثوا عنه وبحثوا فيه وكتبوا، ولعل من أشهرهم الإمام الصوفي أبو حامد الغزالي الذي يقول في هذا الصدد:

إن الجمال ينقسم إلى الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة.

والتجاء الفنان المسلم بحسّه الفني الراقي إلى توظيف الأشكال الرمزية المرئية وتطويعها في خدمة نشاطه الإبداعي الزخرفي على نحو يجعل العمل الفني مجالا لامتناهيا في الرؤية حتى إن الحدود المادية لمساحة العمل (اللوحة، الحائط، الورق..) تفرض أحيانا نهاية تعسفية تحول دون مواصلته، إنما هو اتباع لسنّة فنية إبداعية تفرد بها الفن الإسلامي، وتميز بها عن بقية المدارس الفنّية الأخرى، وهو تقليد يقضي بالابتعاد عن المحاكاة، ونقل قدر أكبر من الدلالات والمعاني الوجدانية التي تنبض بها الصورة، وذلك بغية الاقتراب أكثر من الجمال في شكله ومستواه الروحي، والتحرر من مفهومه المادي الزائل، ولو شاء الفنان عكس ذلك فلن تعوزه القدرة على رسم الطبيعة ونقلها على هيأتها كما هي، ولهذا يبقى الزخرف بالمنظور الإسلامي، كغيره من أشكال الفن الأخرى، قائما على المعرفة الحسية أكثر منها معرفة حدسية يكتسبها الفنان في أثناء مسيرته الفنية والروحية.

وفي نهاية هذه الإطلالة القصيرة على فن الزخرفة الإسلامية يتبين بما لا يدعو مجالا للشك أن الجانب الروحي يمثل سمة بارزة في العمل الإبداعي الزخرفي لا بل طابعا إسلاميا خاصا بهذا الفن، وتحضرني ها هنا قصة تاريخية تستحق الذكر كخاتمة في هذا السياق وذلك للوقوف على ما كان يتمتع به الفنان المسلم من حذلقة تفصح عن درجة عالية من الحس الإبداعي الفني الذي تحلّى به، إذ يروي التاريخ أن ملوكا إسبانا، بعد استيلائهم على إشبيلية، أرادوا ترميم قصر بني عباد بنية إزالة معالمه العربية الإسلامية وإدخال بعض الرموز المسيحية على زخرفته، استنجدوا حينئذ بفنانين مسلمين للقيام بذلك، فأُصلحت الزخرفة بأيد مسلمة ماهرة وضعت تصميما مسيحيا في مظهره يطغى عليه رمز الصليب ولكنه إذا ما تأمل فيه الناظر جيدا يجده يخفي طابعا إسلاميا تجسده العبارة "لا غالب إلا الله"، وظل هذا السر الزخرفي مخفيا قرونا عدة بعد سقوط آخر معقل لحضارة الإسلام في أوروبا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.