شعار قسم مدونات

هل ما زال الاتحاد الأوروبي نموذجا واعدا للتعاون الإقليمي؟

صور عامة لأعضاء الاتحاد الاوروبي
صور عامة لأعضاء الاتحاد الاوروبي (الجزيرة)

 

تأسس الاتحاد الأوروبي كثمرة لعملية طويلة امتدت لما يقارب نصف قرن، بدأت بإنشاء "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب" في التاسع من مايو/أيار 1950 (بيندرا وأشرود، 2015، ص11). وظل الاتحاد ينمو ويتوسع فيضم أعضاءً جددًا، ويعزز أنواع التعاون والشراكة بين دوله، وتعد معاهدة ماستريخت الموقعة في فبراير/شباط 1992، والتي نصت على توحيد العملة النقدية باعتماد عملة اليورو وتأسيس البنك المركزي الأوروبي اللبنة الأخيرة في تشكيل بناء هذا الاتحاد ونظامه الذي نعرفه اليوم (بيندرا وأشرود، 2015، ص 32-34).

وكنموذج للتعاون الإقليمي، فالاتحاد الأوروبي -الذي يضم 27 دولة، بعد خروج بريطانيا- استطاع انطلاقًا من المصالح الاقتصادية المشتركة للدول الأوروبية أن يبني علاقات حلف وتعاون في الجوانب الاقتصادية والسياسية والأمنية، وأن يطورها لتصل إلى النجاح في وضع سياسة أوروبية شاملة وموحدة في قضايا الأمن والدفاع (مزاني، 2019، ص1002).

وواجه الاتحاد الأوروبي في العقد الأخير عدة أزمات؛ مثل الأزمة الاقتصادية المتعلقة باليونان، وأزمة الهجرة غير النظامية، واللاجئين، وأزمة البريكست المتمثلة في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومثلت هذه الأزمات اختبارا لمدى تماسك الاتحاد الأوروبي كحلف إقليمي ومدى قوته وفاعليته في مواجهة الأزمات الخارجية والداخلية، وإنتاج حلول مشتركة تثبت صلاحية هذا الاتحاد للبقاء، وتبقيه نموذجًا عمليًا وواقعيًا للتعاون الإقليمي.

أزمة اليونان الاقتصادية

ظهرت هذه الأزمة ضمن إطار ما تعرف بأزمة الديون السيادية الأوروبية، وأهمها الديون السيادية اليونانية، التي سببت أزمة مالية واقتصادية وضعت الاتحاد في موقف صعب، وذلك بعد عجز اليونان عن الوفاء بديونها، وأثرت هذه الأزمة في التكامل الاقتصادي الأوروبي (أبليلة ويوسفاوي، 2015، ص44). ولحل هذه الأزمة اتخذ الاتحاد الأوروبي عدة إجراءات؛ ففرض لجنة رقابة اقتصادية دائمة على اليونان، وهي شبيهة باللجان المشكلة في دول الانتداب، كما قدم قروضًا سريعة تحت اسم "حملة الإنقاذ المالية"، وتم إجبار اليونان على فرض عدد من القوانين والإجراءات الداخلية، ومنها إعفاء 150 ألف شخص من العاملين والموظفين في قطاع الدولة، وخفض عام للمرتبات، وزيادة الضريبة على البضائع والسلع، ورفع ضريبة الدخل، بالإضافة إلى حل الكثير من المؤسسات والأجهزة العاملة في القطاع العام (أبليلة ويوسفاوي، 2015، ص56).

ورغم نجاح الخطة والإجراءات نسبيًّا، حيث استطاعت اليونان تسديد بعض الديون الداخلية، كما خفضت قيمة سندات الأفراد، فإن خطة التقشف لم تحقق الأهداف المطلوبة منها، وبالنظر إلى هذه الخطة وتقييمها فإنها تبدو كعقوبة على اليونان أكثر منها مساعدة لها (أبليلة ويوسفاوي، 2015، ص56)، فيتضح منها أن الأوروبيين تعاملوا مع أزمة اليونان كفرصة استثمارية، ولم ينظروا لها كمساعدة لشريك (أبليلة ويوسفاوي، 2015، ص57).

وظهر انقسام أوروبي واضح في ظل هذه الأزمة بين الدول القوية اقتصاديًّا وماليًّا، وعلى رأسها ألمانيا، وبين الدول المتأخرة التي تعاني من مشكلات اقتصادية كالديون وتباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة. وأعلنت ألمانيا القائدة للمشروع الأوروبي أنها ترفض تحمل الأعباء الاقتصادية والتبعات الناتجة عن الأزمة للحفاظ على الاتحاد الأوروبي ووحدة اليورو (أبليلة ويوسفاوي، 2015، ص45).

أزمة الهجرة غير النظامية واللاجئين

بما أن أوروبا جزء لا يتجزأ من العالم الذي يحيطها ويرتبط بها وترتبط به جغرافيا واقتصاديا وسياسيا، فإن الاتحاد الأوروبي كنتيجة حتمية جزء من النظام العالمي؛ فالتطورات والأزمات العالمية تنعكس على الاتحاد الأوروبي ويتأثر بها، ومن أبرز هذه الأزمات في القرن 21 ظاهرة الهجرة غير النظامية وموجات اللجوء، حيث مثلت تهديدا ذا طابع أمني للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (فريجة وفريجة، 2018، ص184).

وعمل الاتحاد الأوروبي على مواجهة هذه الهجرة من خلال عدة آليات، وهي:

  • الآليات الأمنية:

وتشمل تشكيل القوات الأوروبية الخاصة عام 1995، وإنشاء وكالة فرونتكس في أكتوبر/تشرين الأول 2004 لإدارة التعاون الميداني بشأن الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد، وتشديد الحراسة الأمنية على الحدود الأوروبية، وعقد اتفاقيات لإعادة المهاجرين وترحيلهم واتفاقيات أمنية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية وغيرها (فريجة وفريجة، 2018، ص192).

  • آليات سياسية واقتصادية:

تهدف في مجملها إلى تعزيز التعاون مع الدول المصدرة للمهاجرين والدول المحاذية للاتحاد جغرافيًّا، وتتضمن اتفاقيات سياسية ووضع خطط وبرامج اقتصادية تحد من موجات الهجرة وتمنعها (فريجة وفريجة، 2018، ص197-202).

وبشكل عام، فقد نجحت هذه الآليات في تحجيم هذه الظاهرة، غير أنها لم تقض عليها كليًّا، لاستمرارية الأسباب والدوافع المسببة للهجرة غير الشرعية؛ كازدياد الفجوة التنموية والاقتصادية بين ضفتي المتوسط، واندلاع الحروب في مناطق الشرق الأوسط التي أحدثت هجرات قسرية. ورغم أساليب وإجراءات الردع التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد الهجرة غير النظامية، واعتماده سياسات متشددة ومقيدة للهجرة القانونية، فإن الواقع العملي أثبت عدم كفاية هذه الإستراتيجيات (فريجة وفريجة، 2018، ص204).

انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

أصبحت بريطانيا عضوا في الاتحاد الأوروبي عام 1973، وظلت علاقتها مع الاتحاد متقلبة وفي أخذ ورد إلى تاريخ 24 يونيو/حزيران 2016، حين صوتت بريطانيا في استفتاء شعبي لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، وكانت لهذا الحدث آثاره على الاتحاد الأوروبي والعالم بأسره (علة، ص362-363)، وبقيت بريطانيا عضوا قلقا وغير كامل في الاتحاد الأوروبي، وذلك لارتباطها وتحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث لم تدخل بريطانيا في مجال "الشينغن" وعملة الاتحاد (مزاني، 2019، ص1002).

وبالنظر إلى نتائج هذا الحدث من الناحية الاقتصادية، فإن كلا الطرفين -الاتحاد الأوروبي وبريطانيا- تأثرا سلبًا، ولكن تبقى بريطانيا الخاسر الأكبر بالمنظور العام، حيث عانت من مشاكل داخلية عقب انسحابها من الاتحاد، في حين لم تتأثر وحدة الاتحاد الأوروبي، بل ازداد قوة حيث حجم التدخل الأميركي في سياساته وحيّده، واستطاع تقوية السياسة الأوروبية في الأمن والدفاع وتعزيز الهوية الأوروبية داخل حلف الأطلسي (مزاني، 2019، ص1013).

وأخيرًا، وانطلاقًا من طرق تعامل الاتحاد الأوروبي مع أبرز الأزمات الداخلية والخارجية التي استعرضناها، وبالنظر إلى مدى نجاحه في مواجهة هذه الأزمات وتجاوزها، فإنه يصعب إعطاء حكم قطعي وجازم في ما إذا كان نموذج التعاون الإقليمي للاتحاد الأوروبي يمثل نموذجًا واعدًا أم لا، لأن الإجابة ستكون نسبية ومتعلقة بنوع الأزمة وحجمها؛ فالنجاح في مواجهة أزمة اليونان الاقتصادية وأزمة اللاجئين كان جزئيًّا ومؤقتًا، وقد أثبتت هذه الأزمات وجود انقسام وتفاوت بين دول الاتحاد الأوروبي نفسها، كما أثبت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الفشل في رسم سياسة مشتركة ترضي جميع الأعضاء وتوحدهم.

ولكن وفي الوقت نفسه، فإن خروج دولة بحجم وثقل بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون أن يؤدي ذلك إلى تفكك الاتحاد أو حله، هو في حد ذاته دليل على قوة وتماسك بنيوي يتمتع به هذا الاتحاد، فقد استطاع تجاوز هذه الأزمة الكبيرة وخرج منها أقوى وأكثر اتحادا، وهذا يجعله نموذجًا جذابًا للتعاون والتكامل الإقليمي بكافة نظرياته وتطبيقاته.

 

وباعتبار أن مواجهة الاتحاد الأوروبي عبر تاريخه للأزمات والمشاكل أمر متوقع وحتمي، ونظرًا لقدرته على تجاوزها أو التجاوب معها قدر الإمكان، فإنه ما زال يمثل نموذجًا واعدًا وناجحًا للتحالف والتعاون الإقليمي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.