شعار قسم مدونات

الأزهرُ والقصرُ: نحو تأسيس دولةٍ دستورية

الأزهر
الأزهر (مواقع التواصل الإجتماعي)

 

في الوقت الذي كان فيه الأزهريون، أو تيّار عريضٌ منهم، يحمل همّ الدستور، وتعزيز الثقافة الدستوريّة، كان كثيرٌ من خصومهم يخوضون معارك هوياتية، وهي معارك تُفتت الملتحِم، وتُبدد المتآلف، وتنفر جماهير عريضة، بخلاف الخطاب الدستوري الذي يُجمّع ولا يُفرّق.

وإذا كانت الحوزةُ الشيعية عرفت الثقافة الدستورية منذ العام 1905، فيما عُرف بالثورة الدستورية في إيران، حين ثار الناسُ تجاراً وفقهاءً وعامّةً ضد الشاه حينئذ، وسرعان ما تطورت مطالب الثوّار إلى المطالبة بالحكمِ النيابيّ والدستوريّ، فإنّ الحوزة السنية، ممثلة في الأزهر الشريف، عرفت الثقافة الدستورية قبل ذلك التاريخ ببرهة من الزمن، بل إنّ الأزهريين أول من طالبوا بدستورٍ لمصر، وكانت الثورة العرابية التي نظّروا لها، وشاركوا فيها، أول ثورة دستورية في المنطقة، كما تقول المؤرخة لطيفة سالم.

الإمام الطيّب وتعزيز الدولة الدستورية

التفتُّ إلى هذا المعنى، أعني دور الأزهر في تعزيز الثقافة الدستورية، حين استمعتُ إلى كلمةِ الإمام الشيخ أحمد الطيب في الحلقة 19، من برنامجه في رمضان هذا العام 1442هـ، فيقول بنفس اللفظ:

لقد دَعَمَ الأزهرُ تأسيسَ الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، أُكرر: الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستورٍ ترتضيه الأُمّة.

وبعد يومٍ واحد في الحلقة العشرين، يرجع ويقول مؤكداً:

على العلماءِ أن يجتهدوا، ويُجددوا الأنظارَ فيما يتعلّق بالأمور السياسية، كالديمقراطيةِ وحقوقِ الإنسان، والحرية وحدودها..، ومشروعية الدستور والبرلمان، وما يتعلق بأمور الاجتماع، وقضايا المرأة، ومنها: توليها القضاء، والولاية العامّة..

فنجده يُركّز على معالم مهمّة، كرضاء الناس، ومقبولية المؤمنين (وهو ما يُسمى في العلوم السياسية الحديثة مبدأ "سيادة الأُمّة") ويدعو إلى التجديد والاجتهاد في الفقه الدستوريّ.

وكلامُ الشيخ الطيب يستند إلى إرثٍ أزهريّ عميق وكبير في التنظير للدستور ونشر الثقافة الدستورية، والحكمِ النيابي، فأردتُ في هذه العجالة إيضاح أهمّ مفاصله، ومعالمه:

علماء الأزهر ودستور الثورة العرابية عام 1882

كان للمصلحين الأزهريين دورٌ في خلع الخديوي إسماعيل سنة 1879م (مات إسماعيل سنة 1895 في منفاه بإسطنبول) رغم أنّ إسماعيل، حسب سكاون بلنت "لم يكن يسمح بأقلّ معارضة وكان حكمه مطلقاً حتى فقدت الألفاظ المستقلة من أفواه الرجال".

لكن علماء الأزهر أبدوا نقمهم عليه، ولم يستكينوا لاستبداده، وجوره. فيقول بلنت نفسه عن منهجهم تجاه سياسة إسماعيل "وقد طعن علماء الأزهر على إسماعيل، فقالوا إنّه معتد على القانون، وظالم سياسيّ، وكثيرا ما تباحثوا سرا ربيع سنة 1879 عن كيفية عزله، والوسائل التي تمكّن من ذلك، أو حتى التخلص منه بالاغتيال". وتسبب هذا الضغط الأزهريّ في محاولات إسماعيل الظهور بالمظهر الدستوريّ. وثمّة نصّ خطير للشيخ محمد عبده، يخبرنا فيه أنّهم تهامسوا في خطة اغتيال إسماعيل، لولا انعدام القائد العسكريّ الذي يقودهم حينئذ، وقال: لو أنهم عرفوا عرابي وقتئذ لمضوا قدما في اغتياله لمنع تدخل أوروبا في الشأن المصري. ويبدو أنّ الأفغاني ورفاقه كانوا يتهامسون في تأسيس جمهورية حديثة في هذا الوقت المبكر جدا، فيقول "ولكن لم يكن من المستطاع في ذلك الوقت تأسيس جمهورية إذا نظرنا إلى حالة الجهل الذي كان سائداً على العقول".

ولمّا خُلع إسماعيل، وتولّى الخديوي توفيق (ت: 1892) عرش مصر، وبعد أن كان توفيق داعما للحركة الدستورية المشيخية العلمائية (بل قيل إنه خضع لنفوذ جمال الدين) إذا به يتنصل من الحركة الدستورية، ويقرر نفي جمال الدين من مصر، أملا في إخماد الفكر الدستوريّ، ثمّ استبدّ وبطش مثل إسماعيل وأكثر، فأغضب المشايخ وروّاد الإصلاح، فنشبت ضده الثورة العرابية (1881/ 1882) برعاية وتنظير ومشاركة من فقهاء الأزهر، إصلاحيين وتقليديين.

ويُخبرنا زعيم الثورة أحمد عرابيّ (ت: 1911) في مذكّراته أنّ ثورته إنما اعتمدت فلسفيا على تنظير جماعة علماء الأزهر من روّاد المدرسة الإصلاحية، وذكَرَ تحديداً منهم: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده.

ويُصرّح عرابي، في غير موضع، بتأثره بالأفغاني، وصداقته الشخصية بالإمام محمد عبده، فيقول لصديقه بلنت بخطّ يده "أخذتُ أفكّر في الشؤون السياسية، وأتذكر أني رأيت الشيخ جمال الدين، ولكني لم أكلّمه، وقد أفادتني علاقتي القديمة بالأزهر معرفة عدد من الطلبة، وكان من أفضل من عرفتهم الشيخ محمد عبده، والشيخ حسن الطويل".

وتذكر الوثائق أن الشيخ محمد عبده اجتمع بمجموعة من الضباط وعلى رأسهم عرابي نفسه، ووضعوا أيديهم على مصحفٍ، ولقّنهم الشيخ محمد عبده يميناً على "تحرير البلاد وتحسين حالتها، والسعي في جلب المنافع إليها، ودفع المضار عنها، بواسطة تنسيق قوانين عادلة، تكفل لكلّ إنسان حقه حتى يعيش أهل البلاد وأبناؤها في أرغد عيش مثل الأمم المتمدنة".

ولذا فقد اعتُقل الشيخ محمد عبده بعد فشل الثورة، وأُهين وضُرب مع مشايخ الأزهر داخل سجنه، من "خصيان الخديوي" كما يقول بعبارته.

ويخبرنا محمد عبده أنّهم (أي الأفغاني وتلامذته من روّاد الإصلاح الأزهريين) أول من طالبوا بالدستور، فيقول "وكنّا نحن الذين طلبوا الدستور، وقد اهتمّ هو (أي عرابي) بالدستور، لأنه رأى فيه ضماناً من انتقام الخديوي أو وزرائه منه، كما كانوا ينتقمون من سائر الضباط".

وإذا كان فضل قيام الثورة ونشوبها ليس خالصا لمحمد عبده ورفاقه من دون الناس، إلا أنّها من تمهيدات عبده، فيقول "كنتُ أنتقد الحكومة بشدة في الجرائد الرسمية، وكنت لا أضيّق على الجرائد باعتباري رئيس قلم المطبوعات. ولكن لم تكن الثورة من رأيي، وكنت قانعاً بالحصول على الدستور، في ظرف 5 سنوات..، ولمّا مُنح الدستور انضممنا جميعا إلى الثورة لحمايته".

فهذا النصّ المهم يدلنا على موقع الدستور ومركزه في فكر الجماعةِ الأزهرية حينئذ، وأنه كان الغاية والمقصد.

الأزهريون وثورة 1919

تؤكد مليكة الزغل، أستاذة بجامعة هارفارد، وتشغل كرسي الأمير الوليد بن طلال للدراسات الإسلامية)، أنّ الأزهر الرسمي تأخر 15 يوما في دعم ثورة 19 ومطالبها، في حين شارك عامّة الأزهريين من الطلبة والمجاورين من أول يوم، وجذبت الحركة الطلابية الأزهرية فئات اجتماعية أخرى، كعمال السكة الحديد، وطلاب الجامعة المدنية، وعقدوا الاجتماعات في حرم الأزهر الشريف، وانخرط البعض منهم في أعمال عنيفة ضد الإنجليز وعملائهم، مثل الشيخ مصطفى القيّاتي أو محمود أبو العيون. ثمّ أعلن الأزهر الرسمي دعمه للثورة ومطالبها بعد مهاجمة الإنجليز للأزهر يوم 11 ديسمبر/أيلول 1919، وأصدرت هيئة كبار العلماء بيانا يدين الإنجليز، ويدعم مطالب الاستقلال. ونجد تفصيل ذلك عند مجدي جرجس في دراسته الماتعة "اختطاف ثورة 19" وعند المؤرخ حسام عبد الظاهر في قراءته لمذكرات الشيخ محمد الخضري.

ولا شك أن هذه الثورة شكّلت جزء كبيرا من الثقافة الدستورية لدى الأزهريين، فتضخمت عندهم مفاهيم الاحتجاج، والإضراب، ومفاهيم الثورة. وكانت تلك الثورة هي السبيل إلى دستور 1923 أهم دستور في تاريخ الدولة المصرية.

الأزهريون ودستور 1923: كبح القصر الملكي

كانت ثورة 19، ومشاركة الأزهريين القوية فيها، لحظة فارقة في العقل الجمعي الأزهريّ، إذ أدرك الأزهريون أن بإمكانهم التغيير، والإضراب، والتظاهر، والاحتجاج، وأنهم رقم مهمّ في المعادلة السياسية والاجتماعية.

ونضرب لذلك مثلا واحدًا: فقد رفض مفتي الديار المصرية الشيخ المطيعي (ت: 1935) في نقاشات ومحاضر لجنة دستور 1923، مذهب القائلين بأحقيةِ الملك في فرض الأحكام العرفية، متى شاء. ونظّر في ذلك تنظيراً سياسياً صرفاً، يُنبئ عن عُمق فهمه، ومتانته في الفقه الدستوري، وإدراك الواقع السياسي حينئذ.

فمما جاء في كلامه في لجنة المناقشة في أغسطس/آب 1922 "أرى أن يكون للبرلمان وحده الحقّ في إعلان الأحكام العرفية، إذا أصبحت البلاد في خطر حقيقيّ مهددة بثورة داخلية مسلّحة أو إغارة على البلاد من دولة أجنبية. فإذا حصل تهديد البلاد على وجه ما ذكر، في دور انعقاد البرلمان فعليه أن يجتمع من تلقاء نفسه ويعلن الأحكام العرفية. أما إذا كان في غير دور انعقاده فللملك بعد أخذ رأي مجلس الوزراء حق إعلان الأحكام العرفية، في الجهة التي تهددت بالثورة أو وقعت فيها الإغارة، دون غيرها. وعلى البرلمان أن يجتمع من تلقاء نفسه اليومين التاليين لإعلان الأحكام التقرير ما يراه في ذلك..".

فعمل الشيخ بخيت على فرض كوابح خارجية على القصر، دون الاكتفاء بالداخلية. متمثلة في البرلمان، وعند غيابه الاضطراري يحل محله مؤقتا مجلس الوزراء الذي تهيمن عليه الحكومة المنتخبة، ومن ثمّ لا يمكن للقصر أن ينفرد بزمام الأمور، ويعلن الأحكام العرفية دون حاجة ماسّة وحقيقية إلى إعلانها.

خاتمة.. بين تياري الدستورية والمستبِدَّة

وخلاصةُ القول إنّ التيار الدستوريّ برز في الأزهر منذ نهايات القرن 18، وتأسس في النصف الثاني من القرن 19، ونضجت ثمرته في النصف الأول من القرن العشرين.

ونسارعُ القول إنّه لم يكن كل علماء الأزهر مع الدستور، والحكم النيابي، بل كان فريق آخر يناهض الدستور، والبرلمان، باعتباره حكما غربيا بدعيا، أو باعتبار مصالحه المتضررة، وهذا يُذكّرنا بتياري الدستورية والمستبدة، اللذين ظهرا في إيران والعراق بدايات القرن العشرين، ولا تزال آثارهما السياسية والاجتماعية حتى اليوم.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.