شعار قسم مدونات

عندما هوت شمس الثقافة

الثقافة.. ترياق حياة لـ"قصور" المدينة العتيقة بتونس (1)

 

بعد الضجة التي أحدثتها صور تكريم "الأنستاغراموز – لايدي سمارا" من قبل المركز التونسي للكتاب في معرضه "تونس مدينة الآداب والكتاب" الذي انتظم مؤخرا في دورته السنوية التاسعة تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية، وما رافق ذلك من جدل أثير على مواقع التواصل الاجتماعي حول هذا الاجتهاد الخاص لمدير المعرض بخصوص هذا التكريم وعلاقته بالآداب والكتاب وحقل الثقافة بصفة عامة، بعد ذلك كله يُدرك المتابع للشأن العام في تونس أن قطاع الثقافة -كغيره من القطاعات الأخرى- هو أيضا قد ابتذل و تردى وضعه حتى أصبح ملامسا الحضيض أو يكاد، في مشهد عام يعكس طبيعة المرحلة وفلسفة إدارة دواليب الدولة وتشكيل سياق عام لبروز ظواهر مجتمعية عنوانها الرداءة والانحطاط، كتيار بديل خال من أي مضمون فكري وقيمي مرتبط بالهوية الثقافية للشعب.

 

وفي سياق التعليق المقتضب على الاحتفاء بـ"الأنستاغراموز"من قبل المسؤولين عن هذا المعرض وأهل الفكر والأدب والفن والثقافة عموما، ومنهم من هم أولى بهذا التكريم، يحضرني ها هنا ما قاله الكاتب النمساوي كارل كراوس

هوت شمس الثقافة أرضا

حتى أصبح الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة،

وحين تبحث في مسيرة المبجلة بالتكريم فلا تجد ما يسترعي الانتباه أو يستوقف العقل إلى عمل أو إنتاج له علاقة -سواء من قريب أو من بعيد- بالثقافة وبما تفرع عنها من نشاطات فكرية أو فنية أو أدبية، تتأكد لك بجدية صحة تلك المقولة للكاتب النمساوي، وترى فيها انعكاسا حقيقيا لواقع الثقافة في تونس بعد عشرية جدباء من ميلاد ثورة الحرية والكرامة.

 

معرض الكتاب هو أيضا أصبح اليوم كغيره من الفضاءات التي تطبع مع موجة الرداءة والضحالة المجتمعية، وتحولت فيه الثقافة إلى سلعة، فأصبح الترويج لها فنا لا يحذقه إلا التافهون، ولذلك علل القائمون على هذا المعرض استنجادهم بـ"انستقراموز" ببنطالها الأحمر "العجيب" الذي شد بصر من سلمها شهادة الشكر، تقديرا لجهودها في الترويج للكتاب والترغيب في القراءة بصورة مبتذلة تتجلى فيها المشهدية بمستوياتها المتدنية، صورة تخفي وراءها كمًّا هائلا من القضايا والمشاكل التي تحوم حول القطاع الثقافي في تونس ولا يلقي لها المسؤولون بالا، فتقف حجر عثرة أمام التطوير والرقي بهذا القطاع الذي ازداد تهميشا بعد الثورة.

 

بعد عقود من السنين ارتهنت فيها الثقافة لتوجيهات فوقية فرضها واقع سياسي اتسم بالنظرة الأحادية للسياسات العامة، وتغيب كل مشاركة لأهل الاختصاص في تقديم حلول ومبادرات من شأنها أن تسهم في صياغة مشروع وطني جاد للثقافة، يأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يسهم به هذا القطاع في نهضة المجتمع ورقيه، وبعد مرور 10 سنوات من الممارسة الديمقراطية وإرساء مفهوم التعددية، ورغم كل المتغيرات التي شهدها المسار السياسي، وما رافق ذلك من تداول على سلطة الإشراف (وزارة الثقافة) خلال هذه الفترة، بعد ذلك كله لا تزال الثقافة مرتبطة باختيارات منفصلة عن تطلعات أهل الميدان وغير قادرة على تلبية حاجات المجتمع، كما لا تزال النظرة إلى هذا القطاع هي هي لم تتبدل بعد، ولم تأخذ بالحسبان كون الثقافة قطاعا حيويا ومشروعا مجتمعيا مشتركا بعيدا عن كل ارتهان أو خضوع لقناعات سياسية لهذه الفئة أو تلك، وفضلا عن تأخر هذا القطاع عن مجاراة تطورات العصر واستيعاب متغيراته المتعلقة بكل ما هو ثقافي، حيث كان من المفترض أن تتضافر جهود كل الفاعلين بدءا من القاعدة ووصولا إلى المستويات والهياكل العليا المتدخلة في هذا القطاع، من أجل وضع سياسات وتوجهات واضحة المعالم وذات أهداف محددة، من شانها أن تخرج الثقافة من إطارها الضيق والمختزل وبصفة مشوهة لمضامينها وأهدافها إلى تشكيل تصور شامل تتكامل فيه المضامين والأهداف، ويحقق للقطاع نجاعته ويكسبه مرونة للانفتاح على ما يفرزه الواقع من تنوع وتجدد، ويقطع الصلة مع النمطية وإعادة اجترار الموروث التقليدي.

 

إن إيلاء الثقافة مكانتها ووزنها بقدر ما تستحقه لهو من باب الوعي بأهمية دورها الفعال في ترسيخ القيم والمبادئ والسلوكات المشتركة بين إفراد المجتمع بتعزيز رابطة الوحدة الوطنية، وإذكاء الشعور بالانتماء إلى الهوية المرجعية، وهي بذلك -ولا شك- ضمانة لحفظ كيان المجتمع وصون له من كل أشكال التفرقة والانقسام، وهي أيضا سلاح مجد في مقاومة ظاهرة باتت تتصدر قائمة الأخطار المهددة لاستقرار وأمن الدول، اتسع نطاقها لتشمل كل أنحاء العالم متمثلة في ظاهرة "الإرهاب"، حيث يرجع الدارسون لهذه الظاهرة الدوافع الرئيسية إلى البيئة الثقافية التي أثرت بشكل سلبي في تفكير المغرر بهم من شبابنا اليوم، ليلقوا بأنفسهم في أتون هذا الجحيم، في ظل قطيعة ثقافية مع موروث ديني اتسم بالاعتدال والوسطية، قطيعة دامت لعقود من الزمن كرستها سياسات قاصرة، ورؤية غير واضحة في علاقة الدولة بالدين، كانت نتائجها التوجه نحو الغلو والتطرف والغرف من منابع الفكر المنغلق الذي ينبذ التسامح ويرفع العنف شعارا له.

 

أمام هذه التحديات الخطيرة والظروف المقلقة التي تمر بها بلادنا اليوم، يعتبر الرهان على قطاع الثقافة رهانا رابحا، ويفترض وجوده -ضمن الأولويات في السياسات العامة للدولة- من باب النظرة الاستشرافية الثاقبة والتخطيط الإستراتيجي الناجح، وحتى نكسب هذا الرهان ونحقق الأهداف والنتائج المرجوة، فإنه يتوجب على الماسكين بزمام الحكم والمسؤولين عن إدارة الشأن العام في تونس التعامل مع الملف الثقافي في إطار رؤية شاملة تقوم على برنامج إصلاح حقيقي يحيط بكل جوانب القطاع الهيكلية والتنظيمية والاتصالية، والترفيع في الميزانية المخصصة للقطاع، واعتماد سياسة جبائية تحفيزية خاصة بكل الأنشطة الثقافية، والزيادة في منح الدعم الموجهة إليها، وتوسيع قاعدة المنتفعين بها، هذا بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات الإدارية تسهيلا لعملية الإنتاج وتحقيقا للنقلة النوعية والكمية المنتظرة ومجابهة لكل التداعيات الاجتماعية والاقتصادية، على غرار تأثيرات جائحة كورونا، فضلا عن الإحاطة بالظروف الاجتماعية والمهنية للمنتمين لهذا الحقل، وذلك بتحسين رواتبهم، وتوسيع قاعدة المشمولين بالتغطية الاجتماعية.

 

أما فيما يتعلق بالجانب الترويجي فلا بد من توسيع رقعة التظاهرات والفعاليات والمعارض وإقامتها في مختلف أنحاء البلاد، وتعزيز الوجود على المستوى العالمي للتعريف بالمخزون الثقافي الوطني والدفع بعجلة السياحة الثقافية للسير نحو آفاق أرحب، كما يتوجب تطوير البنية التحتية واللوجستية بتوظيف التكنولوجيا الرقمية، بالإضافة إلى فتح باب المشاركة لأهل الاختصاص للمساهمة بتجاربهم واستشاراتهم في بلورة وصياغة الخطط بكل نزاهة وموضوعية بعيدا عن كل تجاذب بغاية المصلحة الفئوية الضيقة، ومن ناحية التمويل فذلك يتطلب إيجاد مصادر أخرى داعمة لمجهودات الدولة، بالانفتاح على القطاع الخاص والمجتمع المدني، وتشجيع رأس المال للاستثمار في هذا القطاع حتى يتمكن أهله من مختلف الأنشطة الثقافية من تحرير طاقاتهم وتفجير مكامن الإبداع لديهم، وبذلك يتم استكمال البعد الثقافي للثورة التونسية الذي لا يزال غائبا حتى الآن.

 

عموما، فإن هيمنة السياسة اليوم على الواقع التونسي واحتلال التشغيل والمعيشة صدارة المطلبية الشعبية، قد جعل الاهتمام بقطاع مثل الثقافة أمرا غير ذي بال لدى الطبقة السياسية وأولوية مسقطة من برامجها في فترة مرتبكة تمر بها البلاد، وهذا لا يساعد على بناء ملامح مشهد ثقافي في مستوى تطلعات الشعب، وإعطاء الثورة بعدها الإبداعي والجمالي، فضلا عن منح المثقفين والمبدعين والفنانين والكتاب وغيرهم من أهل الميدان قيمتهم ليمارسوا دورهم في المجتمع ويبلغوا رسالتهم النبيلة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.