شعار قسم مدونات

كيف ننتقم من الحياة؟!

 

الانتقام مكافأة بطعم مرّ ولون أسود قاتم و أنواع شتى، فهناك من يتحدث عن الانتقام البارد والانتقام الصامت بل هناك من يدَّعي أنه حتى الحيوانات تعرف معنى الانتقام فالجمل يقتصّ من صاحبه إن هو عليه جار و الثعابين تحتفظ في أعينها بصور قاتليها لدرجة أنك إذا قتلت كوبرا ذكرا فمن الوارد أن تأخذ الأنثى ثأرها منك بتلك الصورة القابعة في ذهنها.. و إذا ما عدنا إلى حياة البشر فسنجد حتما أن شريط حياتهم يتخلله كثير من المحاولات والخطط الانتقامية.

صحيح أن الدوافع قد تكون مقنعة إلا أن ردّ الإساءة لن يُولّد سوى إساءة أكبر أو بالأحرى إبادة لأواصر المحبة والإخاء التي تؤسس لفضاءات معاملاتنا الإنسانية، فضلا عن كل تلك الطاقة السلبية والمعادلات الهرمونية التي يتطلبها هذا الفعل على مستوى ناصية الدماغ.

هو إذن ردّ فعل بشري قد يعني لكثيرين استردادا لحق مُنتَزَع أو تلذّذا بمشاهدة وثائقي بشري مباشر تختلط فيه الدموع بالآهات والندم.. هو مظهر من مظاهر الشر التي تُبعد الإنسان سنوات ضوئية عن مفهوم الإنسانية والتسامح والود.. هو تأجيج لأسوأ إحساس في الكون الذي هو الكراهية، و طمسٌ لكل معاني الحب والسلام.

 

فهذه زوجة أولى تنتقم من ثانية حطّت الرحيل في عقر فؤاد زوجها.. وتلك كنّة تثأر من عروس جديدة فاقتها مالا وجمالا، وهذا طفل صغير يكسر لعبة زميله في الفصل أو يمزق كراسه المرتب تمزيقا ينمّ عن غيرة دفينة، وذلك قابيل الذي أجهز على أخيه هابيل وهو نائم ظلما وعدوانا لا لشيء سوى لأجل تقبل قربانه وظفره بعقيلة ذات جمال أخّاذ.

وتكثر الأمثلة.. صعب أن نحصرها لأن أسباب الانتقام تكون أحيانا تافهة حدّ الجنون ومجنونة حدّ الدمار ومدمرة حدّ الموت.
وفي خضمّ كل هذه المخططات الشيطانية تمضي الحياة و يتدفق ماؤها من بين أصابعنا المفرقة، يتعكّر صفوه بنزعة الشر التي نلبسها و نخالنا في أبهى حلة.

 

ننتظر يوم الانتقام وكأنه يوم موعود كفيل بفتح أبواب الجنة والنعيم أمام أعيننا.. نُمضي وقتا طويلا في التفكير.. نتخيل كيف سيكون حال المُقْتص منه و بم سيشعر، نتصوره وراء قضبان من حديد يعضّ أصابع الندم ويشكو آلامه ويعدد خساراته.. نتلذذ برؤية الأسى والحزن في مقلتيه!

وماذا بعد تلك النزعة الساديّة؟ أنين وتشتت ووعيد وإحساس بالظلم؟! جرم وطعن وقهر لا يليق إلا بالإيرينيس أو ملائكة الجحيم؟

 

لكن أليس الانتقام ضرورة أحيانا والضرورات تبيح المحظورات؟ بلى! فما نحن إلّا بشر خطّاؤون ميَّالون أحيانا إلى الباطل والضلال! ألسنا نحتاج إلى نوع آخر من الانتقام ما زال ركاما تحت الغبار مدفونا تحت الصخور ومدسوسا بعناية بين رغباتنا النرجسية وثنايا أرواحنا البشرية؟ ألسنا نحتاج إلى انتقام يدفعنا إلى الضحك بدل الحسرة.. إلى المتعة الإنسانية الوجودية.. إلى بعث وإحياء مكنوناتنا الوجدانية الرقيقة الراقية اللطيفة! ألسنا نحتاج إلى الانتقام من تلك التي تدور وتتطاول علينا ولا ترحمنا وقت الشدة! تلك التي تبكينا حتى الثمول ولا تتنازل عن أن تبكينا حتى في لحظات السعادة العارمة باسم توازن هرموني قاتل!
تلك التي نتناساها ونغرق في بحر أوهام عميق.. في دوامة مخططات تافهة.. في سيناريوهات وحوارات لا جدوى من برمجتها.

الانتقام من الحياة

صار لا بد من أن يعنون وجودنا البشري لنصل إلى برّ السعادة بأمان.. فلننتقم من الحياة بالتصالح والتسامح والضحك والتبسم والرقص والتفكر في أحلى الأشياء.. فلننتقم منها في كل لحظة وثانية تسرقهما من عمرنا.. فلنضحك عليها قبل أن تبكينا ونرقص فرحا دون أفراح ونبكي ضحكا من طرائف يومية ونكت قديمة.. ونغامر تارة في جوّها و تارة في عقر بحارها غير آبهين بمصير لن يكون ورديا في كل الأحوال.. فلنسطُ على محاولتها الرامية إلى تذكيرنا بالوهن والموت والفناء.. فلنشرب آلامها دون تلذذ وننهض من جديد كأمّ تتأهب للدفاع عن ابنها الوحيد، كفلاَّح سُلبت أرضه و قرر استرجاعها بكل ما تملكه قبيلته من زاد وعتاد.. فلنلوّن ماءها الشاحب بما تجود به مخيلتنا من ألوان أفلاطونية!

فلنحاول تجاوز عثراثها وتجاهل عقباتها والدوس على حجارتها الصلبة.. هي التي تهدينا يوما من التبسم ودهورا من الألم.. هي التي تسرق النور من دواخلنا و تطفئ ضياء شموع كنا بفضلها صامدين شامخين.. هي التي تبعثر أوراقنا وتسجل أهدافا في مرمانا بتسلل مخيف..

فلننتقم من شرورها ومآسيها ومطباتها نعم الانتقام!

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.