شعار قسم مدونات

السياحة في مصر.. وموكب المومياوات الملكية!

الرئيس المصري كان في استقبال موكب المومياوات لدى وصوله إلى المتحف القومي للحضارة المصرية (وكالة الأنباء الأوروبية)

 

تباينت ردود أفعال المتابعين لحدث نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط بالقاهرة في الثالث من أبريل/نيسان الجاري، وهو الحدث التاريخي الذي قد لا يتكرّر أو يحدث مثيله في أعمار الأجيال الحالية. سادت عاطفة "الفخر" وربما "الانبهار" لدى بعض المتابعين، بينما سادت عاطفة "الغضب" عند متابعين آخرين ممّن رأوا في الحدث شكلاً استعراضيًا سياسيًا وإنفاقًا في غير محلّه. والأمر يستدعي نقاشًا أوسع.

 

لقد أحكم الأمن قبضته بالفعل، فهذا الميدان الذي كان يمور ويحتشد في أوقات متفاوتة في 10 سنين كان آخرها في سبتمبر/أيلول 2019 أصبح مكانًا تحت سيطرة الدولة تمامًا. وهذا الانضباط الكبير في الميدان الذي قد كان من الصعب تصوره منذ عامين فقط أوصل رسالة قوية جدًا إلى الخارج أن الميدان آمن وأنّ بإمكان السياح زيارته الآن باعتباره "أيقونة" فرعونية وسياسية في ذات الوقت.

وقد يكون سؤال الهوية يطرحه الحدث بالفعل. فقد تعمّد الحدث تدعيم فكرة أنّ هوية مصر الحقيقية أو الأصلية هي هوية المصريّين القدماء أو الفراعنة. وقد ألهم الموكب الفخم كثيرًا من المتابعين للانتساب لهذه الهوية. وهذه الفكرة ليست جديدة فقد يفوق عمرها مئة عام مع محاولات متبعثرة خلال هذا القرن لإحياء هذه الحضارة عساها تسهم في تشكيل هوية اللحظة المعاصرة. في الحقيقة، قد لا يكتب لهذه المحاولات النجاح. فقد بادت الحضارات القديمة كلّها سواء أكانت الفرعونية أم الآشورية أم العبرانية أم الفينيقية أم اليونانية القديمة.

ولم يبقَ من هذه الحضارات سوى آثارها المادية فقط. أمّا لغاتها وثقافتها ونظامها الاجتماعي والسياسي، فباد وانقطع ولم يبق له تأثير في الحضارة المعاصرة. كما لا يمكن ادّعاء الانتساب لأنساب ودماء القدامى حتّى الآن، فمن ذا الذي يمكن إثبات نسبه بالفعل للقدامى وإثبات دمه إليهم.

يحكي التاريخ أنّ مصر كانت مهدًا لهجرات متنوعة ومختلفة من الجزيرة ومن الشام بل ومن المغرب العربي ومن إيران. يقول صاعد الأندلسي، المؤرخ، إنه من الصعب إطلاق اسم "المصريون" على من يقطنون في مصر، لتعدد أعراقهم ومشاربهم، لذا يسمون عادة "أهل مصر" لاحتواء الأعراق والأجناس التي تعيش على أرض مصر تحت هذا الاسم.

 

ولبعث الهوية الفرعونية المصرية تاريخ محدّد، إذ يربط محمود محمد شاكر في كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" بين ابتداء الاستشراق الإنجليزي في مصر "المدارس" نهاية القرن التاسع عشر التي بنيت على أساس تفريغ الطلاب من الماضي المتدفق المرتبط بالعروبة والإسلام وإحلال الانتماء إلى الحضارة الفرعونية عوضًا عنه. وهذا لم يسدّ الفراغ ويردم الهوّة بسبب الانقطاع الثقافي واللغوي بين الفرعونية والحضارة المعاصرة. فالفرعونية مهما بلغت ما بلغت من العظمة والجلال، فإنها ستظل آثارًا مادية ونقوشًا ومنحوتات ميتة لا تنطق ولا تتصل باللحظة الحالية.

 

 

 

 

ولكنّ حدث نقل المومياوات بذاته بفنّه وإخراجه وإنتاجه وتنظيمه الدقيق والحاضر بقوة لافت بشدّة. والحدث في الحقيقة هو عرض مسرحي عالي الجودة يشيد بامتياز مصر الفنّي سواء في عروض المسرح أو الأوبرا أو المعمار أو العروض العسكرية. وإنّ عاطفة الفخر في الحقيقة منشؤها العرض المسرحي القوي لا الواقع المُعاش الآن ولا الحضارة الفرعونية ذاتها.

 

الاقتصاد هو السؤال الحقيقي ضمن هذه الأسئلة المتعددة. تضرّر الاقتصاد المصري في العشرية الأخيرة التي لم تهدأ أحداثها السياسية إلاّ بعد وباء كورونا. ولسببٍ ما، فالاعتقاد السائد أنّ السياحة موردٌ اقتصادي شديد الأهمية لمصر، وعمود هذا المورد هو سياحة الآثار الفرعونية. والسياحة مشروطة بالأمن المستتب التام، وفي ذات الوقت من المنتظر أن ينتهي وباء كوفيد خلال الأشهر القادمة، وبالتالي فقد ينتظر مصر موسم سياحي قوي عام 2022.

فالحدث وتوقيته وتصويره في المناطق السياحية ذات الأهمية البالغة مثل سفح أهرامات الجيزة ومعبد الأقصر وميدان التحرير نفسه يحمل رسالة "تسويقية" واضحة جدًا، وهي: إن مصر أفضل وجهة سياحية في العالم عام 2022 فالأمن مستتب بدليل تنظيم حدث بهذا المستوى في "ميدان التحرير" وهذه الآثار الفرعونية تنتظر زيارتكم لأنّ ما شهدتموه من عرض مسرحي عالي الجودة يحكي قصة مصر التي نريدكم أن تعرفوها وتميزوا مصر بها. فليست مصر هي الواقع المعاش، بل هي الآثار الماثلة أمامكم وهذا التنظيم الفنّي البارز، فهذا حدث في الحقيقة هدفه التسويق والدعاية والتواصل والاتصال. وقد أثمر الحدث النتائج المرجوة في الحال، فكتب كثيرٌ من متابعي الحدث بالإنجليزية أن الحدث مبهر وأنهم ينتوون السياحة في مصر فور أن ينتهي الوباء.

 

فادّعاء الهوية جزءٌ من التسويق إذن، ففي الحقيقة إنّ الهوية الفرعونية لمصر فكرة أوروبية استشراقية. وإبراز مصر في هذا الثوب الهوياتي والتسويقي شيء يروق للغربيين ومحبّب لهم. ونرجو لمصر اقتصادًا مستقرًا في العشرية القادمة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.