شعار قسم مدونات

إدريس ديبي: ثلاثة عقود من التبعية الكاملة لفرنسا

الرئيس التشادي إدريس ديبي يقود قوات بلاده في معركة ضد بوكوحرام
الرئيس التشادي إدريس ديبي يقود قوات بلاده في معركة ضد بوكوحرام (الجزيرة)

 

طويت صفحة صعبة على المواطنين التشاديين صبيحة أمس الثلاثاء 20 أبريل/نيسان بعد مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي إتنو الذي حكم البلاد منذ 1 ديسمبر/كانون الأول عام 1990. وهي صفحة يمكن أن يُطلق عليها بأنها أسوأ ما أنتجت الديكتاتورية الأفريقية المتدثرة بالديمقراطية الزائفة والتي صحبها أول إعلان عشية انقلابه قائلا فيه للحشود المجتمعة:

لم آتكم بذهب أو فضة وإنما أتيتكم بالحرية والديمقراطية.

وقد ظل ديبي يرفع هذا الشعار طيلة فترة حكمه العسكري الاستبدادي، ولم يردعه تساقط الطغاة في الدول المجاورة ولا الربيع الأفريقي الذي هزت رياحه أنظمة استبدادية عتيقة في غرب أفريقيا، ولم يتعظ بالتحولات الديمقراطية في النيجر وبنين. وسنتناول في هذا المقال الآلية التي كان يحكم بها تشاد وكيف قاد تشاد من دولة ديكتاتورية تأن من سياط الرئيس "حسين هبري" إلى دولة تتصدر قائمة الدول الأكثر فسادا ومرضا وجهلا.

 

الثورة على هبري والطريق المعبد إلى نجامينا

توجس كبار القادة العسكريين من تصرفات هبري بعدما انتهت الحرب التشادية الليبية، لأن الأخير أصبح لا يثق بأحد ويتهم الدائرة المقربة منه التدبير بانقلاب عسكري، وقد أحس ديبي مستشار هبري للدفاع بخطورة بقائه في العاصمة، فقرر مغادرة النظام والتوجه شرقا إلى السودان ليلتحق بالثورة المرابطة هناك، وحزم أمره وغادر المدينة خلسة إلى السودان عام 1988، وبعد معارك طويلة من الكر والفر مع قوات هبري وبدعم مشترك من فرنسا وليبيا والسودان استطاع ديبي دخول العاصمة  نجامينا وإعلان خارطة تحول ديمقراطي تمخض عنها أكبر حدث مهم أنجزه ديبي وهو المؤتمر الوطني المستقل التي جرت أعماله في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان عام 1993، وكان الهدف من المؤتمر ساميا يقوم على المشاركة السياسية لكافة الأطراف المسلحة وجمعيات المجتمع المدني. وما إن ذاق ديبي حلاوة الكرسي وارتدى البزة العسكرية عشق البقاء ونكث بالعهد الذي قدمه للمؤتمرين عشية اختتام المؤتمر وواصل عنجهيته في إدارة البلاد وخصخص الشركات الحكومية لصالحه أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وجعل شركة القطن التشادية -التي كانت تدر أرباحا طائلة للخزينة العامة للدولة- موردا للتسليح وشراء الذمم، ورفض الاعتراف بنتائج انتخابات عام 1996 التي أكد المراقبون الدوليون أنه خسرها، وبدت ملامح الاستبداد تلوح في الأفق.

 

عهد البترول والتمرد العسكري

رفضت فرنسا كل المحاولات التي قدمتها الأنظمة المتعاقبة لحكم تشاد في ملف استخراج البترول، ووافقت -على مضض- بداية الألفية على متابعة التنقيب التي توقفت عملياته منذ السبعينيات بسبب الحرب الأهلية واختلافها مع هبري في ملفات متفرقة أهمها التقارب الأميركي التشادي في منح الشركات الأميركية الصلاحية في التنقيب عن النفط، وفي 10 أكتوبر/تشرين الأول عام 2003 رست في ميناء دوالا بالكاميرون أول ناقلات النفط التشادية للتصدير إلى السوق العالمي، وتفاءل الشعب التشادي خيرا بهذه النقلة المهمة في الاقتصاد الوطني.

وضاقت حركات المعارضة ذرعا بهذه الخطوة وقررت الهجوم على العاصمة في 13 أبريل/نيسان عام 2006، وأعادوا الكرة في 2 فبراير/شباط 2008، لكن النظام استطاع دحر الهجومين بمساعدة فرنسية. ومع ازدياد أسعار النفط بدأ النظام في إطلاق حزمة من المشاريع التنموية، لكنها باءت بالفشل بسبب سوء التخطيط والفساد الإداري والسياسي.

 

تشاد.. بلاد الألف وزير

لعل أكثر ما يبين مظاهر التخبط السياسي والعشوائية الإدارية في عهد الرئيس الراحل إدريس ديبي إتنو هو كثرة الوزراء الذين تم تعيينهم خلال الفترة الممتدة بين 1991 و2021، وكانت تشاد تمر كل فترة بمرسوم رئاسي يتم فيه تشكيل حكومة جديدة، ولا تقدم الوزارات أي خدمات ملموسة للشعب بقدر ما هي مناصب للمحاصصات المناطقية والترضية للقبائل التي تذعن للطبقة الحاكمة وتقدم قرابين الدعم والمساندة للحركة الوطنية للإنقاذ، وذلك ما أدى إلى فشل ذريع في مؤسسات الدولة التي ظلت عاجزة عن تحقيق أي تطور يلبي آمال المواطنين، وبُحّت أصوات قادة المجتمع المدني الذين كانوا ينادون بتعيين الكفاءات في المناصب ذات المسؤولية وعدم العبث بمقدرات الدولة ومكافحة الفساد؛ تلك الآفة التي أضرت كثيرا باقتصاد البلاد ومقدراته، ولم تشفع التعيينات الحكومية للوزراء الأكفاء بالبقاء في مناصبهم لفترة وجيزة إلا وتم عزلهم عندما يفكرون خارج الصندوق أو يقدمون حلا لقضايا شائكة، وأطرف ما يمكن ذكره في هذا السياق أن رئيس الوزراء السابق نور الدين داليوا كاسيرى عندما سلّم رئاسة الوزراء للسيد يوسف صالح عباس قال ناصحا له إنك في بلد يعج بالقضايا الصعبة فدع عنك كل النظريات التي درستها في الجامعة وتعامل مع الواقع السياسي في تشاد بصورة استثنائية، وفي السياق ذاته تم عزل رئيس الوزراء السابق آدم يونسمي بعد 3 ليال قضاها في منصبه، ومعهود عن منظومة الحكم في عهد ديبي بأنها وطدت المحسوبية وعدم مساءلة القائمين بالاختلاسات المالية من الوزراء الذين كانوا يسجنون لأيام معدودة ويتم الإفراج عنهم وإعادة تأهليهم لمناصب أكبر من التي كانوا عليها.

 

 

 

المارشال والتدخلات العسكرية في أفريقيا

برز اسم الرئيس ديبي كأحد الجنود المخلصين لفرنسا في دول الساحل، وسخّر إمكانيات الجيش التشادي لقتال الأنظمة السياسية التي لم تمنح الضوء الأخضر من فرنسا في أفريقيا، فشارك في الاضطرابات العسكرية في أفريقيا الوسطى والحرب على المعارضة في مالي وقتال الجماعات المتطرفة بالكاميرون والنيجر ونيجيريا، وكانت التدخلات التشادية في كل هذه الدول تمثل تحديا كبيرا للقوات المسلحة التشادية التي دخلت حروبا مفتوحة بالوكالة، وتكبدت خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ولم تقدم فرنسا أي تعويضات للقوات التي شاركت في الحرب على مالي، بل إن العاصمة نجامينا تعرضت لهجوم انتحاري من جماعة بوكو حرام عام 2015، وتكررت عمليات الاغتيال الجماعي لأفراد القوات المسلحة، ولم يؤسس ديبي طيلة 3 عقود جيشا وطنيا يمكن الاعتماد عليه في ساعة العسرة، بل إن الدخول في الجيش يعني العمل لحماية ديبي والجنرالات الذين يحيطونه، وسيتحمل الشعب التشادي فاتورة المشاركة في الحروب العبثية التي استمرت طوال السنوات الأخيرة والتي كان بإمكاننا عدم المشاركة فيها والاكتفاء بالتعاون الأمني مع دول الجوار، فهل ستتدخل الدول التي كنا نستبيح أراضيها عند الاضطراب السياسي في المشهد التشادي؟

 

المارشال والسير على خطى القذافي

شعر الرئيس الراحل إدريس ديبي بنوع من الزهو والخيلاء والاعجاب بالنفس عقب شنه حملات لتطهير جماعة بوكو حرام في الحدود الغربية التشادية المحاذية لنيجيريا، وأطلق على العملية -التي تستهدف قتال الجماعات المتطرفة- اسم "غضب بوما"، وذلك ردا على قيام جماعة بوكو حرام بقتل أكثر من 100 جندي تشادي في إحدى القرى الحدودية بين تشاد ونيجيريا، ولم تمض بضعة أيام حتى أعلن الجيش التشادي تحرير الأراضي التي احتلتها جماعة بوكو حرام، وعجت مواقع التواصل الاجتماعي بصور للرئيس وهو يتفقد القوات المرابطة ويعد جماعة بوكو حرام بأنه سيتم القضاء عليهم قريبا، و بعد عودته أراد تخليد نفسه وأطلق على نفسه لقب "مشير تشاد"، بل وطلب من جميع المواطنين مخاطبته بمشير تشاد ومارشال أفريقيا، وكان يذبل توقعيه في المراسيم الرئاسية بجملة مشير تشاد، ويكتب اسمه في مواقع التواصل الاجتماعي بمشير تشاد، وطلبت إدارة المراسم برئاسة الجمهورية عدم نشر صور الرئيس إلا وتكتب تحتها مشير تشاد، ولكي يجعل لقانون العسكرة شرعية قانونية فإنه طلب من البرلمان السنة الماضية (2020) عقد حفل كبير دُعي لحضوره الساسة والبعثات الدبلوماسية والوفود الخارجية ليكون على طريقة القذافي، بدل ملك ملوك أفريقيا ملك جنرالات أفريقيا، ولقد ظل ديبي طيلة العقود الثلاث ينذر الشعب من شؤم رحيله ويخبرهم بأنه العماد الذي تقوم عليه الدولة ويرى بأن رحليه أو غيابه عن الحكم في تشاد إيذان بالخراب والحرب، وفي كل جملة وأخرى كان يتهكم على الشعب ويقول إن الحكم في تشاد ليس سهلا وإنه لم يأت على متن طائرة مدنية إلى الكرسي، وإنما قاد الثورة، ومَن أراد الوصول إلى الكرسي فعليه بالسلاح والنار.

 

ماذا بعد ديبي.. الحرب أو الحرب؟

لم يستطع ديبي طيلة 30 سنة أن ينشئ دولة مؤسسات؛ فقد كان هو الحاكم الأوحد للبلاد وجمع كافة السلطات في يده، فهو رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة ورئيس المحكمة العليا والرئيس الفخري للبرلمان ووزير الدفاع، وكما يقول الحكماء "الحرب ليست نزهة" فإن ديبي كان يهيئ الشعب التشادي لمثل هذا اليوم، وإعلان المجلس الانتقالي العسكري بقيادة نجله محمد سيزيد المسألة تعقيدا، والمعارضة المسلحة التي تملك معدات عسكرية ثقيلة هي الأخرى تتربص بالحكومة الدوائر، والأوضاع لا تنذر بالخير، والمعارضة الداخلية المعتدلة رفضت إعلان المجلس الانتقالي العسكري، وسياسة التوريث التي يسعى لها كهنة النظام لن تفلح في مقاومة المعارضة الداخلية التي تطمح باختيار شخصية توافقية تدعو إلى مؤتمر وطني للتخلص من آثار الاستبداد السياسي الذي دمر مؤسسات الدولة، وتريد المعارضة السعي الحقيقي لإيجاد مخرج للأزمات الكبيرة التي يعانيها المجتمع التشادي، والمتمثلة بالفقر والمرض والجهل؛ فمنذ استقلال تشاد عام 1960 لم تقدم الحكومات المتتالية للمواطن إلا الحرب والسلاح والجوع والديكتاتورية، فهل ستتغير هذه الرؤية مع عملية التغيير التي حدثت أم أننا سنظل نعزف على نفس الوتر ونندب حظنا ونلعق أحذية العسكر الذين يعشقون بيعنا في سوق النخاسة الدولية بتعبير أحد المفكرين؟.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.