شعار قسم مدونات

الفكر العربي الإسلامي وحتمية التجديد

 

يمثل الفكر العربي الإسلامي منظومة متكاملة في أبعادها، بما يحتويه من تراث خصب في مختلف جوانب حياة الإنسان والمجتمع من علوم وثقافة واجتماع وسياسة وأخلاق. هذا النتاج الحضاري الذي ساهم بشكل مؤثر في صياغة مفاهيم كثيرة في الفكر البشري الحديث، لعل أبرزها المنهج العلمي التجريبي، الذي قامت عليه الثورة الصناعية بأوروبا في القرن الـ18.

ولما كان التطور أمرا يحتمه القانون الطبيعي للفكر بصفة عامة، فقد مر الفكر العربي الإسلامي بدوره بمراحل تطور تجسدت في حركات واتجاهات تصحيحية متصلة ببعضها، من حيث المنطلقات والمضامين والأهداف، تظهر بعد كل فترة جمود أو انحراف نتيجة أزمة ذاتية داخلية أو تأثيرات خارجية.

ولما كانت قضية التجديد من أوكد القضايا، التي يتأسس عليها الفكر العربي الإسلامي في عصرنا الحالي، من حيث مواكبة واستيعاب متغيرات الزمن. فقد كان لا بد من تتبع مسار هذه الحركة والكشف عن الجوانب التي أتت عليها.

ليس الإسلام، وإن كان الدين أصله، دينا فحسب؛ بل هو منهاج حياة ونظام مجتمع يسوده الإخاء والعدل والحرية وحصيلة ضخمة من القيم والمفاهيم الأخرى، التي ألقاها القرآن إلى المسلمين والناس جميعا، فشكلت أصول الفكر الإسلامي.

لا ريب أن التعرض لمصطلح "الفكر الإسلامي" سيفتح أمامنا أفقا واسعا، يمتد في الزمان عبر 14 قرنا؛ لنقتفي آثار جمهور من العلماء في ركام بملايين الأطنان من الورق. ولا ريب أيضا أن الفكر الإسلامي خلال هذه القرون الطوال من تاريخه لم يحافظ على نقاوته الإسلامية؛ بل اختلط بثقافات أمم متأصلة في لغاتها كالفارسية والتركية وغيرها من الأمم، حيث أعادت هذه الثقافات بناء أسسها ومقوماتها في ظل هذا الفضاء الحضاري الرحب.

أما الثقافة العربية، فكان اتصالها بالفكر الإسلامي اتصالا طبيعيا وبعلاقة عضوية منذ بواكيره الأولى، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الفكر العربي الإسلامي هو كيان واحد تتكامل روافده (اللغة والثقافة والتاريخ)، وقد صيغ وفق منهج أصيل يمتزج فيه الوجدان بالعقل؛ مما مكنه من استيعاب خلاصات الفكر البشري، التي استصفت في أعماقه، وأعاد تشكيلها من جديد.

خلال مراحل تطوره واجه الفكر العربي الإسلامي أزمات مختلفة في حدة تأثيرها. اعترته الواحدة تلو الأخرى بسبب الجمود والضعف الداخلي تارة، والتدخل الخارجي تارة أخرى؛ لكنه لا يلبث أن يستعيد حيويته بالتماس جوهر أصوله الثابتة، وتجديد مقوماته في سبيل تحقيق الوحدة الفكرية بين منتسبيه.

كشأن كل حضارة في حركة التاريخ بلغت الحضارة الإسلامية أوجها في ظل القوة العسكرية للإمبراطورية العثمانية (1299-1923). بدأت قوية ثم انتهت إلى الضعف والركود، فكان لا بد من قيادة جديدة تحمل المشعل، فبزغ فجر الأمة العربية من جديد، بعد تزحزحها عن دفة القيادة السياسية للعالم الإسلامي لبرهات من الزمن مكتفية في هذه الأثناء بممارسة دورها الفكري الريادي، بفضل ما يتميز به الفكر العربي من حركية وتجدد بطابعه الوسطي بدون انحراف ولا انحلال ولا تطرف. وكان من أعلامه الذين حملوا لواء التجديد عبر العصور على سبيل الذكر لا الحصر الغزالي وابن رشد ومحمد عبده في المجال الديني، وابن خلدون والطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني والكواكبي في الاجتماع والسياسة. وفي كل مرة كان الهاجس الذي يشغل بال قادة الإصلاح والتجديد هؤلاء تحرير الفكر من براثن التقليد، وإعادة التوازن بين منهجي العقل والقلب بعد كل فترة من الزمن رزحت فيها المجتمعات العربية والإسلامية تحت وطأة الجبرية والجمود.

وبعد هزائم متتالية مني بها العالم العربي والإسلامي أمام التفوق العسكري للقوى الاستعمارية الغربية لم يبق سوى سلاح الفكر للمقاومة ومواجهة تيار التغريب، الذي حاول جاهدا ضرب الهوية العربية الإسلامية في عمق ثوابتها. حيث كان للفكر العربي الإسلامي رأي وموقف مما جاء من الضفة الأخرى من فكر وحضارة، كما جرى سابقا في تعامله مع حركة النقل والترجمة؛ إلا أن سياق التقاء الفكرين الغربي والإسلامي يختلف بين المرحلتين. ففي مرحلته الأولى مرحلة النقل والترجمة كان العرب والمسلمون بصفة عامة أحرارا مطلق الحرية في نقل واستيعاب التراث الغربي والاستفادة من مناهجه بما يتوافق ومقوماتهم الأساسية. أما في المرحلة الثانية مرحلة الغزو الثقافي، فقد فُرضت عليهم أفكار ومفاهيم ملغمة بالشكوك والشبهات بدون مشاركتهم كل ما هو إيجابي من علوم وصناعة غربية، نقاط القوة التي خولت للاستعمار بسط نفوذه والسيطرة على شعوب العالم الإسلامي واستنزاف ثرواته. وكانت الأمة العربية المستهدف الأول أساسا من هذا الغزو باعتبار ما تمتلكه من رمزية وحجية في فهم أصدق وأصفى للإسلام ومقوماته. فمن قلب هذه الأمة جرت حركة تجديد الفكر وإحياء مفهوم الوحدة الإسلامية عبر العصور. ولعل أهم رواد هذه الحركة في بداية القرن الـ19 ممن اهتم خصوصا بالإصلاح الاجتماعي والسياسي الطهطاوي وخير الدين التونسي وآخرين ممن اهتموا بالإصلاح الديني والتربوي، واشتغلوا على مفهوم العروبة والوحدة الإسلامية، ولعل أبرزهم إشعاعا الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي.

من خلال سفره إلى فرنسا واحتكاكه بالحضارة الغربية تكون لدى رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) منهج فكري مستنير، تمتزج فيه أصالة الفكر الإسلامي بروح العصر وقوامه العلم والمعرفة. وكان حقل التربية وتعليم النشء وتمكين المرأة من دورها في المجتمع في صدارة اهتمامات الطهطاوي لتوظيف منهجه هذا. كما كان للمصلح المصري السبق في الاستنتاج أن القيم والمبادئ والمفاهيم التي جاءت بها فلسفة الأنوار، سواء في الاجتماع أو السياسة أو القانون أغلبها لها جذور تاريخية في الفكر العربي الإسلامي غير أنها أخذت طابعا غربيا جديدا، وخير مثال على ذلك اتصال كثير من التشريعات القانونية الفرنسية بجذور الفقه المالكي، ومن هنا رأى خريج الأزهر أن المسلمين أولى بالانتفاع من هذه الثروة الفكرية، وأن أمته، وهي في مرحلة الجمود والضعف وفقر الأخلاق والثروة، لهي الآن في أمس الحاجة إلى بضاعتها الأولى. فحرص الطهطاوي على نقل ما استطاع من الحضارة الغربية إلى الثقافة العربية في سبيل تأسيس مجتمع متمدن بروح أخلاقية إسلامية. كما كان شديد الحرص أيضا في مشواره الفكري على المزاوجة بين مفهومي الأصالة والتحديث في كل ما هو نشاط بشري، فلا فصل بين الجانب المادي والجانب الروحي وبين النقل والعقل في بناء شخصية الإنسان وتحقيق سعادته. كما احتل الفكر السياسي الغربي، خاصة فيما يتعلق بنظام الحكم والدستور وفصل السلطات وسيادة القانون والحريات الفردية والعامة والحقوق والواجبات، حيزا مهما في فكر الطهطاوي وفي كتاباته وأعماله الأدبية أهمها كتابه "تلخيص الإبريز" وكتاب "منابع الألباب العربية في مناهج الآداب العصرية".

 

 

ومن المفكرين الذين عاصروا الطهطاوي واشتركوا معه في النظرة وفي دوافع التماس أسباب النهوض والرقي بالمجتمع، المصلح خير الدين التونسي (1820-1890)؛ إلا أن منهج هذا الأخير يختلف عن منهج الطهطاوي في بعض الجزئيات. حيث كان خير الدين أكثر عمقا ووضوحا في آرائه وأفكاره بحكم تجربته السياسية وموقعه القريب من إدارة الشأن العام. ودعا هو أيضا إلى ضرورة أخذ ما في الحضارة الغربية من علوم وتقنيات ومعارف ونظم وتراتيب الإدارة والجيش، واعتبر ذلك من الحكمة، وأن الإسلام لا يمنع هذا الاقتباس، ولو كان مخالفا في الديانة. كما لخص المصلح تونسي المنشأ أسباب تخلف المسلمين رادا ذلك إلى عدم مجاراة الفكر الإسلامي لمستجدات العصر هذا من جهة، ومن جهة أخرى عدم إلمام ساسة المسلمين بأمور الدين، فكانت دعوته إلى تعاون رجال الدين والسياسة لخدمة المجتمع دعوة نصح، حتى تُحفظ ثوابت الدين، ولا يفرط فيما ينفع الأمة من أمور الدنيا بدعوى عدم ورود النص فيها، لا أخذها بمقياس العقل والمنفعة. ويرى خير الدين أيضا أن تأسيس مجتمع حديث يتوقف على إصلاح النظام السياسي بالأساس، وتقييد السلطة بمبدأ الشورى لإدارة أمثل لدواليب الحكم وتوزيع الثروة وإشاعة مبادئ الحرية والمساواة وثقافة الحقوق والواجبات في المجتمع.

كان لما ساهم به الطهطاوي وخير الدين التونسي في مجالي الاجتماع والسياسة أثر كبير في بلورة مرحلة جديدة شهدها العالم العربي والإسلامي، اتسمت بظهور تيار الوحدة، ومن أبرز قادته السيد جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، الذي ترجم مفاهيمه الفكرية على أرض الواقع بالعمل السياسي. حيث يرى جمال الدين أن السبيل الوحيد للتخلص من النفوذ الأوروبي واستبداد الملوك وأولي الأمر وسطوتهم على شعوبهم، لا يكون إلا بنشر ثقافة الوعي بالحرية والكرامة والعزة. فكانت الصحافة والكلمة المفعمة بالحماس والثورة وسائل العمل المتاحة للأفغاني آنذاك لنشر أفكاره وآرائه.

كما ركز الأفغاني في رؤيته الإصلاحية على مفهوم الملاءمة بين العلم والدين ودحض أي تناقض بينهما. ودعا إلى اعتماد منهج التأويل بما يتماشى مع روح الحداثة وضرورات العصر، والابتعاد عن التقليد الأعمى للأقدمين وترك التمسك باجتهاداتهم وإسقاطها على واقع اليوم. كما دعا أيضا إلى مراجعة الفكر الإسلامي، من حيث تنقيته من أفكار الجبرية والباطنية والبدع والفهم المغلوط للنصوص، وكل ما يبعث اليأس والتواكل في النفوس والعقول، فتمسك عن العطاء والعمل والإبداع.

وخلال سفره إلى أوروبا كوّن جمال الدين "جماعة العروة الوثقى"، وأصدر جريدتها في ظل تحديات خطيرة يمر بها العالم العربي والإسلامي تمثلت في سقوط أجزاء منه (الجزائر، مصر، تونس..) في براثن الاستعمار الغربي، وكان محمد عبده ممن شاركه في مشروعه هذا في بدايات التأسيس.

وإن كان للمصلحين الغاية نفسها؛ إلا أنهما اختلفا في المنهج والأسلوب. فالشيخ محمد عبده (1849-1905) كان يرى أنه من غير المجدي سلك طريق الثورة للإصلاح، بل التوجه نحو حقل التربية والتعليم مدخلا للنهوض بالمجتمع، وقد حقق نتائج مهمة في هذا المضمار، حيث كان يعي جيدا خطورة السياسة التعليمية والتربوية للاحتلال عبر وسائله (المدارس الإنجليزية خاصة) في تغييب دور الأزهر في المنظومة التربوية والتعليمية؛ مما قد ينجر عنه مس بالثقافة واللغة ومقومات شعب بأسره. فيؤدي ذلك إلى ذوبان وانحلال حضاري تكون عواقبه كارثية على أجيال حاضرة ولاحقة.

كان الشيخ محمد عبده يعتبر أن التربية هي السبيل الأمثل لإصلاح المجتمع وتحقيق نهضته، فبالأفراد الذين ينشؤون على حسن الأخلاق والتفكير المتوازن يمكن تغيير نظم الحكم وتحسين إدارة دواليب الدولة، ومن أجل هذا عمل على إدخال إصلاحات في المناهج التعليمية في الأزهر، منها تعميق دراسات الفلسفة وعلم المنطق باعتبارهما أدوات فعالة لتحرير الفكر وإنارة طريقه، حتى إن بعض الدارسين يرى في فكر عبده فكرا اعتزاليا في ثوب معاصر لما أولاه من قيمة للعقل. وفي الحقيقة ليس العقل وحده غلب على فكر محمد عبده؛ بل امتزج فيه العقل بالوجدان، فكان فكرا مستنيرا متوازنا يزاوج بين الفلسفة والتصوف. وهذه نافذة أخرى من نوافذ التجديد في الفكر العربي الإسلامي فتحها شيخ الأزهر، ليدخل عبرها من جاء بعده حاملا دعوة الإصلاح والتجديد.
ومن المصلحين العرب أيضا الذين حملوا لواء الإصلاح والتجديد كان عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902) في الشام، وهو معاصر للشيخ محمد عبده، وتركز فكره أساسا على ظاهرة الاستبداد السياسي وأثاره السلبية على المجتمع. واشتغل كذلك بقضية التخلف من حيث أسبابها العميقة وسبل معالجتها، بالإضافة لدعوته إلى الوحدة العربية والإسلامية.

 

 

ويمكن اعتبار فكر الكواكبي امتدادا لفكر المصلحين السابقين من حيث دعوته هو أيضا إلى ضرورة فتح باب الاجتهاد، وترك التقليد، وتجديد المفاهيم، ومزج الأصالة بالحداثة والأخذ بأسباب التقدم والمدنية من علوم ومعارف، بغاية إصلاح المجتمعات العربية والإسلامية والارتقاء بها نحو مصافي الأمم المتحضرة.

لم تنته حركة التجديد والإصلاح الفكري في العالم العربي والإسلامي، ولم تتوقف عند هذا الرعيل من المفكرين، الذين تقفينا آثارهم في معرض حديثنا، والذين عاصروا أحلك فترات التخلف والانحطاط والجمود، التي مرت بها مجتمعاتهم؛ بل تواصلت المسيرة بعدهم، وحمل الراية جيل جديد، كان الاستقلال وبناء الدولة الحديثة على رأس أولويات نضالهم وغاية نشاطهم السياسي والفكري.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.