شعار قسم مدونات

"فوضى الأحاسيس".. وعمليات التغيير المجتمعي!

الحرب على الواجهة الأخرى.. الشذوذ الغربي

 

أنهيت منذ فترة مطالعة رواية "فوضى الأحاسيس" للروائي النمساوي الشهير ستيفان زيفايج، وقد أعجبتني وأعجبني بناؤها الفني والأدبي البسيط والعميق، لكنني لن أتعرض لها هنا من الناحية الفنية، لأن ما لفت نظري فيها هو جانب فكري يتعلق بطبيعة عمليات التغيير المجتمعي بشكل عام وفي الغرب بصورة خاصة.

الرواية نشرت في ثلاثينيات القرن الـ20 منذ حوالي 90 عاما، وهي تتعرض ضمن أحداثها لقصة أستاذ أكاديمي في الأدب الإنجليزي يعاني من الشذوذ الجنسي، وما تفرع عن ذلك من طبيعة رفض المجتمع الأوروبي له في ذلك الوقت، وكيف أن ذلك البروفيسور المرموق الذي له وجاهة كبيرة في المجتمع آنذاك كان يضطر إلى الاندساس داخل مناطق نائية مطيَّنة تفوح منها رائحة النتن والعفونة في مدينة برلين الألمانية، ليمارس شذوذه مع أفراد قذرين مخنثين غير متقبلين في المجتمع.

واللافت للنظر هنا أن تجد أوصافا لفعل الشذوذ داخل الرواية، منها

رغبات شاذة، احتقار، اشمئزاز، نفور، شخص منبوذ،

رذيلة مخزية، ضرب من الجنون، ملطخة بالقرف، مسممة بالخوف،

الرفاق المشبوهون، عالم الرذيلة، المغامرات المخزية، ميوله المنحرفة،

شعور خانق بالخزي والعار والخوف من الذات، العادات المشبوهة،

فتيان فاسقون، التلوث بالرجس والقذارة، مخلوقات شبحية ودنيوية نتنة

كل هذه وغيرها كانت الأوصاف الحرفية للرواية عن الشذوذ الجنسي وممارسيه والحالة التي تتلبسهم حال ممارسته.

البروفيسور في الرواية تحولت حياته إلى جحيم نفسي حقيقي بسبب ممارساته المنحرفة وعدم تقبل من حوله لها، كان يتعرض لعمليات ابتزاز وتهديد تخلف وراءها أحيانا هلعا ورعبا بلا حدود، فضلا عن سخرية الآخرين منه ومن ممارساته المشبوهة، لم يكن ينام في الليل إلا قليلا بفعل سوء حالته النفسية التي سببتها حالة التناقض التي يعيشها، بل ربما ناداه داعيه الداخلي مساء فتسلل من المنزل تاركا زوجته الحسناء ومغادرا بالأيام ليخوض مغامرة دنسة جديدة، ليعود بعدها وقد علت جسده وملابسه جميع مظاهر الانحراف والقذارة.

لم يلفت نظري تدوين زيفايج هذه الممارسة القبيحة التي كان غارقا فيها هذا البروفيسور، فهذا مما قد يوجد في كل مجتمع بنسبة ما، وربما يكون الكاتب أراد تسليط الضوء على هذا الشخص من باب الاستثناء الذي يلتفت إليه الأديب في كتاباته، فالفن بالأصالة تدوين لحالة من الاستثناء، والحياة العادية لا تلفت نظر المبدع لتدوينها، وإنما اللافت لنظره هو الغريب، الغريب في حاله أو طبعه أو شخصه، أو حتى الغريب في موقفه الطارئ الذي لا يسير وفق العادة اليومية المطردة.

ومن هنا قد تكتسب بعض الأعمال الأدبية والفنية صفة السأم حينما تلتفت فقط إلى ما يلتفت إليه الناس يوميا، وتشير بأصابعها إلى ما يعتاد الناس الإشارة إليه، أما الإبداع فيهتم بما لا يهتم به الآخرون، ويركز على جوانب مظلمة من الحقائق لا يلتفت إليها الناس، أو على الأقل يعبر عما يعتاده الناس لكن بأسلوب لم يعهدوه أو يعتادوا رؤيته أو سماعه، ومن هنا يكتسب صفة الجدة والابتكار "فالفن تدوين للاستثناء" كما قلنا.

لكن الفاصل بين أديب وآخر يكمن في كيفية تدوين هذا الاستثناء وعرضه، فقد استعرض زيفايج القبح الكامن في هذا الاستثناء، ونجح في خلق صورة مستبشعة ومنفرة عنه، لكن الأعمال الأدبية المعاصرة تروج لهذا السلوك وتجعله اختيارا مقبولا ومتاحا، بل ومحببا في أحيان كثيرة.

وإني لأتوقع لو كتب هذه الرواية الروائي العربي "فلان" لاستبدل جميع الألفاظ الآنفة الذكر وحالة الفصام التي أتعبت ذلك البروفيسور المريض والتي كان يعيشها بين حالته وسط طلبته صباحا في الجامعة ومساء بين الأراذل في المواخير والمشارب بحالة تحفزه لمزيد من الإبداع والتميز المهني والحياتي والأكاديمي.

ما لفت نظري في هذه الرواية هو تصور المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت لهذه الرذيلة واستنكاره لها ووصفها على لسان هذا الكاتب الكبير بأقذع الأوصاف وأقساها، ولن تخطئ عينك حالة الإدانة التامة التي سببتها هذه الأوصاف لهذا الفعل الشنيع في الجزء الأخير من الرواية.

 

أوروبا في هذه الفترة كانت تدين الشذوذ، وتراه فعلا مستقبحا مخالفا للفطرة السوية، ولا يمارس هذا الفعل منهم سوى الحقراء والمنبوذين الذين خصصوا لأنفسهم أقذر الأماكن وأبعدها عن العمران ليمارسوا أفعالهم بعيدا عن أعين الناس الذين يرونهم مرضى أو كائنات متدنية.

ومن كانت تراوده نفسه من أهل المدينة ليلطخ سمعته بهذا الفعل الشائن كان عليه أن يتكبد عناء الانتقال إلى هذا المكان القذر ليدنس حياته برجسه خفية ودون أن يعلم به أحد، ويا ويله إذا انكشف سره وافتضحت حقيقته! هذا ما كان عليه هذا الوضع في أوروبا وقتها.

وحين طالعت هذه الأوصاف السابقة في الرواية قفزت في ذهني فورا الصورة الحالية لهذه الممارسة المنحرفة في الآداب والفنون الغربية المعاصرة، كيف حدث هذا التحول الرهيب في المجتمع الغربي -ويجري على قدم وساق في المجتمع العربي بالمناسبة- تجاه تقبل الشذوذ بدءا من تغيير التسمية الصادمة للأذن "الشذوذ الجنسي" إلى وصف آخر مهذب ومستساغ "المثلية الجنسية"، ومرورا بعرضه علانية وبفخر في الإعلام والأعمال الفنية والأدبية، وانتهاء بإعلانه رسميا في كثير من دول العالم الغربي والأوروبي بديلا أو طريقا موازيا للزواج الطبيعي، واستخدامه ورقة سياسية أحيانا من قبل الساسة والحكام.

فبات من الطبيعي جدا أن تطالع يوميا في صفحات الجرائد والمجلات زواج امرأتين أو رجلين داخل كنيسة، وهو زواج رسمي معلن وموثق من قبل الدولة، بل ومع التطور اليومي تطالع إعلان بعض رجال الدين والقساوسة لشذوذهم الجنسي وفخرهم بذلك، وبات طبيعيا أيضا أن يقتحم عليك منزلك مشهد أو عدة مشاهد في عمل درامي يقبِّل فيه رجلان ذوا لحية كثيفة ومكتملا الرجولة بعضهما البعض، ليستبدل الصورة النمطية القديمة عن الشاذ جنسيا في الدراما بأنه شخص مخنث يتمايل بضحكات رقيعة، في إدانة واضحة لفعله، فالآن يمكنك أن تكون رجلا شهما ومسؤولا وعلى أعلى درجات الاحترام وقوة الشكيمة في العمل، وشاذا موطوءا في نفس الوقت بلا غرابة أو تأنيب ضمير!!

الفاصل بين هذه الأوصاف المستقبحة لهذا الفعل الشائن في الرواية وبين الواقع الحالي المبيح والمروج هو 90 عاما فقط (وقت نشر الرواية)، 90 عاما تحولت فيها البشاعة والانتكاس الفطري إلى واقع طبيعي يحظى بالقبول المجتمعي! وهذا أمر مرعب في حد ذاته، فمنذ مهد التاريخ البشري لم يحدث هذا الغزو البشع للكرة الأرضية والإغراق الرهيب بالمحتويات الشاذة والمنحرفة على هذا النحو الذي يقع الآن.

لكن رقم 90 هذا يعد رقما كبيرا نسبيا، فطوال هذه الأعوام التي تقترب من قرن من الزمان لم يشهد العالم هذا التسابق المحموم على النشر اللاهث للشذوذ إلا في آخر 15 أو 20 عاما على الأكثر، ولنا أن نتخيل أن آلافا أو عشرات أو مئات الآلاف من السنوات من عمر البشرية لم تتغير خلالها هذه الصورة الفطرية السوية في نفوس البشر حتى وإن مارس بعضهم الشذوذ، لكن عقدا أو عقدين من الزمان كانا كافيين لتشويه وإتلاف هذه الفطرة وإحداث تدهور حاد في التصورات المستقرة سلفا، فماذا يحدث؟!

 

الطفرة الكونية التي يعيشها العالم الآن في مجالات السياسة والإعلام أحدثت حالة من اللهاث المتعجل نحو التطبيع مع الانحراف، والعلمانية والإلحاد اللذان سيطرا على المجتمع الغربي وبدآ يغزوان المجتمع العربي والإسلامي صارا المتحكم الرئيس فيما يعرض على الشعوب في الإعلام والدراما، بل نصبا نفسيهما مهندس الأخلاق الكوني للعالم، فيقرران ما يناسب البشر وما لا يناسبهم من الأخلاق والمعتقدات بناء على المتطلبات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفكرية للإلحاد والعلمنة.

حتى الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال لم تسلم من ذلك، فالمحتوى الغربي المرسِّخ لقبول الشذوذ وزرع فكرته في عقول الناشئة -سواء بالإشارة أو بالمباشرة- صار أكثر وأكبر كثافة من أن يحصى، وهذا يتطلب حالة من التحفز والانتباه المضاعف لأخذ الأهبة والتدرع بمختلف وسائل المقاومة.

 

لم تعد الدراما والفنون الروائية والقصصية الغربية مجرد أداة ترفيهية بريئة كما كانت أول نشأتها، بل صارت سلاحا حربيا كئيبا ربما يفوق في تأثيره مفعول القنابل والمجنزرات والآليات المعقدة، إنها سلاح فكري انتكاسي ضد الفطرة والقيم والأخلاق، وبكل أسف تمكن الطرف المناوئ من حيازة أسباب التفوق فيه، ولم نتمكن نحن حتى هذه اللحظة من الهجوم واستخدام أساليبه بذات البراعة التي يقاتلنا بها، وكان جل ما نفعل هو الصراخ من الألم والاستكانة بزاوية رد الفعل.

ولا ننكر أن هناك جهدا فكريا نخبويا يصاغ على صفحات الكتب وقنوات الأثير، إلا أنه غير كاف في مواجهة هذا السيل الجارف من الدراما القبيحة، فطبيعة الشعوب البعيدة عن حالة النخبوية الثقافية لا تتأثر بالأطروحات الفكرية المصبوبة في المؤلفات العلمية بقدر ما تتأثر بالدراما البسيطة التي تنفذ إلى العقل اللاواعي، وربما يتجاوز تأثير فيلم أو مسلسل واحد العديد من الكتب والمحاضرات التي يتلقاها الإنسان البسيط في عمر مديد، لأن الأول يحفر في قلبه وعقله الباطن، والثاني يخاطب عقله وتفكيره.

 

إننا مطالبون -وبسرعة لا تحتمل التأجيل أو التقاعس- بإعداد مشروع درامي أخلاقي وقيمي يواجه المشروع الإعلامي الغربي المتضحة معالمه التخريبية المنحرفة، ولم يعد ذلك من رفاهية الأعمال أو الأفكار والمشروعات، بل بات أمرا ملحا كعلاج "الغرغرينا" التي ما لم يتخذ الطبيب قرارا صارما وسريعا فسوف تنتشر في الجسد المنهك كله، ولن يغني حينها العلاج ولا البتر.

مشروع إعلامي قادر -ولو نسبيا- على المنافسة، فكثير من التجارب السابقة في الدراما والرسوم المتحركة القيمية والأخلاقية كانت ساذجة وعلى مستوى فقير مهنيا وتفتقد لعناصر الإبهار والقصة والجودة، فكانت تكرارا لما سبقها في الأسلوب والمعالجة المباشرة المفتقدة للحبكة، وطغا عليها الخطاب الوعظي، لذا كانت مثار سخرية واستهزاء لا محط اهتمام وشغف.

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.