شعار قسم مدونات

في صف مَن هم بالأسفل

العمالة الأسيوية بدول الخليج العربية
العمالة الأسيوية بدول الخليج العربية (الجزيرة)

 

تحت حرارة الشمس الحارقة في الخليج، كنتُ أمرُّ كل صباح بالعمال الهنود المتراصين في الصحراء القاحلة، ينتظرون حافلات النقل العُمالي، بينما وجوههم تتصبب عرقا يكفي لملء المحيط العظيم، كنتُ أشعر بالسخط على هذا العالم كله.

كانت السيارات الفارهة تمر من جانبنا، سريعة كالبرق، كأنها تترفع عن منحهم حتى فرصة النظر إليهم، تباينٌ واضح وظلمٌ جلي. لم تكن تغريني لقبوله حكايات جدتي عن النصيب، ولا أحاديث شيخ الجامع عن توزيع الأرزاق.

 

للمفاضلة بين الناس حدود، وللتباين بين الغني والفقير مقدار، ليصبح في الأمر خلل إذا زاد عن حده، هذه ليست المفاضلة التي نعرفها في ضمائر خيالاتنا؛ بل ابتلاع صريح لحقوق الفقراء في الحياة، وتمييز قبيح تستنكره كل نفس سوية.

كنتُ أتمنى أن أوقف هذا العالم لحظة أعيدُ فيها ترتيب هذه الفوضى من جديد، ثمة تعديلات طفيفة يمكنها أن تصحح هذا الخلل، فقط لو تخلى صاحب السيارة المليونية عنها لصالح سيارة أخرى، فارهة لا تزال؛ لكن فارق السعر بينهما كاف لمنح كل هؤلاء العمال ركوبة آدمية كافية.

انتقلتُ بعدها إلى منطقة اخرى في الخليج ، وهناك تعقدت الأمور أكثر فأكثر، حين استأجرتُ سيارة تقلني للعمل، فبتُ أمرّ بالعمال في الإشارات من نافذة القيادة، وقت أقل وغُصة أكبر.

 

كانت سلوى نفسي في أولاً أنني ما زلت راجلا أسير على الأرض، تماما مثلهم، كنتُ أشعر أنني أقرب إليهم، في صف من هم بالأسفل، نخوض نضالا واحدا رغم كل شيء.

لكن حين ركبت سيارة، شعرتُ وكأنني انتقلت إلى الجهة الأخرى، بعيدا تماما عنهم، وأن ثمة شخصا آخر الآن في مفتتح رحلته يطالع سيارتي بالجهة الأخرى، وهو يردد العبارات نفسها التي لطالما ترددت في خاطري طول سنوات.

كان كل شيء يتغير في حياتي يتغير إلى الأحسن، أتفاوض بين المنصات بحثا عن راتب أعلى، وأخوض في المساء مع أصدقاء الماضي أحاديث عن رحلات تسوقهم إلى دبي وخطط تنزهاتهم في أوروبا، يخيل إلينا أن حياتنا تتغير؛ لكن ننسى أن نفوسنا هي الأخرى تغيرت، وهناك -لا غير- شعرتُ أول مرة بالغربة.

 

في تلك الآونة، استبد بي الشعور أن العالم غير قابل للإصلاح، وأن خيالاتنا الحالمة لا مكان لها في عالم الواقع، وأننا مجبرون على قبول أن نتغير، حتى لو كنا غير راضين عن هذا الإنسان الجديد الذي سنغدوه.

لكن لم تدم الرحلة طويلا في أرض الخليج، لتكتب الأقدار للشاب اتجاها مغايرا في الجهة الأخرى تماما، هناك حيث استعادت النفس شيئا من عافيتها، وأدركت الروح أنه من الممكن المقاومة، وأن ثمة أرضا بكرا في أخلاقها لا تزال تعيش الحياة الأولى.

 

ها أنا اليوم في الجنوب اللاتيني عند بوليفيا وبيرو، خلف بلاد الأمازون، حيث للثراء حدود، وللغنى مقدار، وللمباهاة بالمال منطق لا يخرج عن العدالة بأن نعيش كلنا فوق منحنى متقارب، حتى لو عشنا كلنا فقراء.

خلف الأمازون، شعرتُ بالراحة حين أدركتُ أن ما حلمتُ به في الصحراء، ممكن على الجهة الأخرى، كلنا نركب الحافلات البالية نفسها، نسير سوية على الطرق المهلهلة، نشتري من السوق الشعبي ذاته، وتجمعنا المخاوف نفسها من اهتزاز الأرض أو ثوران المحيط.

بيننا أغنياء قلة، يتخفون كأنهم خارجون عن القانون، حتى إنك بالكاد قد تلمحهم، يدركون أن المباهاة في إظهار الغنى قد تجعلهم هدفا سهلا للعصابات واللصوص المتربصين، ولا حل أمثل من أن يجتهد الجميع في إظهار "عاديته" واندماجه مع الجميع.

في لاتينا، وجدتُ الشيء الذي ما زال يربطني بمن هم في الأسفل، أعيش سعيدا بينهم دون تلويث التباين القاسي، وسبحان من رزق ساكني سفوح الجبال القاسية عند حافة الأرض، عدالة أوسع من راكبي المصاعد فوق ناطحات السحاب.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.