شعار قسم مدونات

كلوب هاوس.. الجديد القديم

 

أذكر أنني كتبت لمجلة "دايل آب" (Dial Up) التقنية عام 2011 في حمى الفيسبوك أنه مقهى كبير، لا ينبغي لك قول ما تخجل منه بصوت مرتفع، فالكل يسمعك، ويدون انطباعاته عنك، قلت ذلك قبل أن يستخدم الفيسبوك البث المباشر حتى، وقبل أن يضيف الكثير، وقبل أن يخبو بريقه الأخاذ لصالح تطبيقات أخرى كثيرة، وإن كان للفيسبوك الآن واقع آخر براق أيضا بصورة مختلفة.

واليوم، أتى "كلوب هاوس" (Clubhouse) في صورة جديدة دافعا الناس لحنين الأصوات، ففي دوامة "كورونا" المهاب ذي الإغلاق والحجر، لم تعد الكتابة كافية للتواصل، ولا حتى جلسات مؤقتة على هذه المنصة أو تلك، ولا حتى المنصات الصوتية التي تسجل النصوص و"البودكاست" (podcast) وما شابه، وانبثق "كلوب هاوس"، فتدافع الناس تباعا لتبلغ جمهوريته ما يقرب من 6 ملايين متحدث، الكل يتحدث، كأنهم في مقهى؛ لكن بدون صخب، ولا كثير لغط، ارفع يدك وحسب، وتحدث.

في عالمين في وقت واحد، عالم كلوب هاوس، وعالمك الحقيقي، تبقى تتابع عملك اليومي، وتتابع كلوب هاوس، تماما كعاداتنا القديمة مع المذياع، مركونا على زاوية المكتب أو طاولة المطبخ سيان، هو يتحدث في خلفية تؤطر عملنا، وتكسر إجهاده وتتابعه، ونحن نمنحه شيئا من الاهتمام لا كل الاهتمام إلا عند الاقتضاء.

وكلوب هاوس نخبوي، فلسفته انتقائية، فهناك قيود تتعلق بالأخلاق العامة والسلوك المهذب، قد تفضي للطرد من المكان -أقصد التطبيق برمته- فهو مقهى نخبوي إذن من مجالس العرب القديمة في أنديتها من دار الندوة لمجلس سكينة لمجالس الرشيد وغيره، أو قل من مقاهي التنوير في باريس وسواها إبان النهضة، ولا عليك، خفف الأمر، فهناك مجالس للضحك والدعابة كما هناك مجالس للتجارة والحديث فيها.

وهكذا تتواصل فكرة ترك الخيار للناس، كأي تطبيق ليبرالي غربي، الخيار بيدك، والوسائل ساحات تنتقي ما تشاء منها، ما دمت لا تؤذي أحدا، ولكن الفرق المثير للدهشة هنا، أن كلوب هاوس حنين للمشافهة والحديث، حنين للتداول الحر المباشر والتلقائي للأفكار؛ لكنه -وكأي وسيلة تقنية معاصرة- يمحو حواجز الزمان والمكان.

وكلوب هاوس يحرر المحتوى المسموع من قيود المنصات الصوتية والبودكاست، إنه يعيد الثقافة لأفق الحوار المباشر، ويتيح للمثقفين الوصول للجمهور، وللجمهور الوصول لمن يشاؤون من مثقفي أبراج العاج.

 

 

على كل حال، ينبغي على المثقف أن يحذر شد الجمهور له إليهم، فيقع في فخ سلطتهم وأثرهم عليه، فينقاد لهم، مقدما لما يطلبونه، كما ينبغي له الاعتناء بضبط مصطلحاته، فللقول فتنته، وللفكر زوغان، وللمعاني روغان، تحتاج في ضبطها لعمل كثير، فهل المثقف قادر على الجمع بين لغة الإعلامي ومصطلح الأكاديمي وخفة روح "كلوب هاوس"، ليقدم للجمهور "بودكاستا" تلقائيا متفاعلا جذابا.

ومن الطريف أن لكل مجتمع هواية تروج عنده وتشيع فيه، فمجتمع تسود فيه الجدالات الفكرية وآخر مطارحات الشعر، وثالث معارك السياسة، وكل وفق مواسمه الخاصة به، فمن أراد معرفة مجتمع ما وهوايته الحضارية، فليطف بغرف كل قوم في مضاربهم، يعرف ما عندهم، ويفهم صورة مجملة، وليحذر من التعميم في التقييم، فهو فخ عظيم.

وهذا يذكرني بآفة من آفاتنا، فلأننا مستوردون لهذه التقنيات، فإننا نستخدمها متجاهلين لفلسفتها، وما الأشياء بلا فلسفتها إلا أشياء تائهة في استخدامها، وتنظيمها، فلا تعبر عن واضعها ومقصده، ولا مستخدمها في شخصيته؛ بل تبقى في سياق العبثية واللا جدوى، ولا أخطر من العبثية على الثقافة بل على الإنسان، إذ إن ما لا قيمة مضافة له، فهو خصم على الإنسان.

وللقارئ أن يقارن بين استخدام الغربيين لمخترعاتهم، واستخدامنا لها، ليعرف حجم اللا جدوى عندنا، وحجم الانضباط في الاستخدام عندهم، فلا يخرج لحد الإدمان أو التعطل عن الأعمال والمصالح؛ إلا من كان مصابا بعلل أخرى.

وليس ذلك من التمجيد للقوم، بقدر ما هو للتنبيه على موطن الخلل عندنا، فهل ننتبه؟

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.