شعار قسم مدونات

الدبلوماسية الروحية والغزو الإبراهيمي

 

كانت الجماهير العراقية مفعمة بالحماس حينما أطلقت الشرارة الأولى لثورتها في أكتوبر/تشرين الأول 2019 في أول خطاب شعبي وحدوي يستهدف الوجود الإيراني في العراق، وينادي بإسقاط حكومة عادل عبد المهدي بحثا عن عراق يخلو من النفوذ الإيراني والمليشيات، التي تتقلب فيه كالأفاعي يمنة ويسرة؛ لكن مع قدوم فيروس كورونا ومحاولة السلطات الحاكمة السيطرة على الاحتجاجات عبر تحركات سياسية آخرها كان تعيين مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء في العراق، ثم استقبال بابا الكاثوليك فرانشيسكو في زيارة ضج الإعلام الغربي والمسيحي بتغطيتها، والتنظير لبذور السلام والتسامح، التي زرعها البابا في أرض الملاحم والحروب خلال زيارته. لكن النقل الإعلامي سواء العربي أو الغربي للزيارة كان ينظر بعين منحرفة، تركز فقط على زاوية واحدة من المشهد، فالتفاصيل الكثيرة التي أغرقت بها وسائل الإعلام الغربية تقاريرها عن تغطية الزيارة ركزت فيها على الوجود المسيحي، الذي تقلص بفعل هجمات تنظيم "داعش"، والمقدمة المنمقة التي تحدث فيها البابا عن إبراهيم عليه السلام بوصفه أبا روحيا لكل الأديان السماوية، ومدخلا للتصالح فيما بينها، وليس انتهاء بلقاء المرجع الشيعي علي السيستاني، واعتباره ممثلا عن المسلمين في العراق وراعيا للسلام فيها.

تلك الدبلوماسية الروحية التي دائما تستغل من صانع القرار السياسي الغربي أبشع الجرائم، التي ترتكب بحق الشعوب المسلمة، وجزء منها زيارة البابا التي جاءت بالكثير من الرسائل السياسية التي يمكن إدراكها، وأبرزها سحق منجزات ثورة تشرين، التي طالبت بطرد وتنحية شركاء واشنطن في إدارة الملف العراقي من المرجعيات الدينية الشيعية الموالية لإيران بوصفها أكبر مسببات الفساد، وكذلك اختصر البابا العراق في توصيفاته الديموغرافية على أنها أغلبية شيعية وأقلية مسيحية، متجاهلا الأغلبية السنية التي ما يزال مئات الآلاف من أبنائها في خيام النازحين. ولا يمكن الشك بأن تلك الزيارة جاءت أيضا لدعم الخطاب السياسي الأميركي الذي يتبناه الرئيس جو بايدن؛ لترويض إيران، واعتبارها جزءا من هيكلة الأمن الإقليمي في منطقة الخليج، وإشارة مهمة لوجود تراضٍ أميركي إيراني عن طبيعة إدارة الملف العراقي، وكذلك توافق بشأن التوسع التركي في العالم الإسلامي، وتأثيره السلبي على كلا الطرفين.

فالبابا الذي زار "أور" بوصفها مسقط رأس نبي الله إبراهيم عليه السلام، لم يكن لديه شك أن السيستاني يحتفظ بمكانته الدينية بفضل دعم يقدمه الحرس الثوري الإيراني، فالحشد الشيعي "المليشيا الأبرز في العراق" لم تكن لترى النور لولا فتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقها السيستاني عام 2014 وكانت تشريعا فقهيا شيعيا لاستهداف الأنبار ذات الأغلبية السنية بذريعة القضاء على "داعش".

 

 

الخطاب الإبراهيمي الذي جلبه البابا معه إلى العراق كان استكمالا لحديثه عن بناء "بيت العائلة الإبراهيمية" خلال زيارته إلى الإمارات العربية عام 2019، وهي فكرة ترجمت عمليا في العاصمة الإماراتية أبو ظبي ببناء وتشييد دور عبادة متقاربة مكانيا للمسلمين واليهود والمسيحيين، بالإضافة إلى مركز تعليمي يؤصل لهذه الدعوة.

العراق كانت رغبة بابوية قديمة منذ يوحنا بولس الثاني عام 2000، وكذلك بنديكتوس الـ16؛ لكن يبدو أنه في حكم إيران للعراق أصبحت الطريق معبدا بالورود أمام البابا فرنشيسكو.

وتماشيا مع المصالحة الشيعية الكاثوليكية، التي دشنها البابا بزيارة السيستاني، أصدرت جمعية علماء "قم" الإيرانية، رسالة وصفت فيها الزيارة بــ"التاريخية"، واعتبرتها فرصة للعلماء والحوزات الشيعية لــ"اتباع هذا النموذج الحديث في حوار الأديان"، وفقا لما نقلته "وكالة تقريب للأنباء" (TNA).

لم تكن الزيارة علامة فارقة في تاريخ الدجل السياسي، الذي يمارسه حكام العراق؛ لكنه أيضا أصبح مادة دسمة للصحافة الغربية، التي استغلته لإظهار العراق بوصفه دولة شيعية تعيش بمظلة روحية من أبرز الزعماء الدينيين في العالم الإسلامي، وهو علي السيستاني. فقناة "فرانس 24" (FRANCE24) الفرنسية وصفت السيستاني باعتباره يقود مدرسة قريبة من العلمانية الغربية، تؤمن "بفصل الدين عن السياسة"، ويقول الكاتب روبن رايت في مجلة "نيويوركر" (New Yorker)، "إنه على عكس إخوانه الشيعة في إيران، يميز الدين عن السياسة، رغم أنه دعم دستورا ديمقراطيا في عهد صدام حسين". وكذلك في مقال نشرته "نيويورك تايمز" (New York Times) واصل الإعلام الغربي دجله ودفاعه عن السيستاني تماشيا مع خطاب البابا التبجيلي له، وذكر أنه:

رجل دين شيعي مؤثر للغاية على عكس نظرائه الإيرانيين،

ويعتقد أن الدين لا يحكم الدولة.

لكن المتناقضات من السهل العثور عليها حينما يمارسها رجل دين مسيرته ملطخة بالفساد مثل البابا فرانشيسكو، الذي يقود أكبر الكنائس المسيحية في العالم، وتعاني من داء المثلية والفساد المالي والإداري، لا سيما أن آخر قضاياها مست البابا شخصيا بعد أن طالبه عدد من الأساقفة بالإفصاح عن أكثر من ملياري دولار أسترالي تم تحويلها بصورة سرية إلى حسابات في أستراليا من أموال الكرسي الرسولي. حمامة السلام التي أطلقها البابا وهو يوزع ابتساماته أمام عدسات الكاميرات قابلتها مباركة البابا لزعيم مليشيات "بابليون" المسيحية، ريان الكلداني، الذي يعمل تحت قيادة الحشد الشيعي الذي تديره إيران، وقيام فرانشيسكو بإهداء الكلداني مسبحته الخاصة، رغم أن الكلداني مدرج ضمن قائمة العقوبات الأميركية منذ 2017، لارتكابه جرائم ضد الإنسانية؛ لكن في هذا المقام لا نعلم من الأصدق بيانا؛ هل هي العقوبات الأميركية أم المباركة البابوية؟.

وحتى لا نستطرد كثيرا بتفصيل ما جاءت به الزيارة، فيجب أن نستعين بما تبحرت في شرحه الباحثة المصرية الدكتورة هبة جمال الدين؛ لتوضيح طبيعة اللعبة الأيديولوجية قاتمة الألوان، التي تعيشها المنطقة، ويمكن اختصارها بـ"الإبراهيمية"، وتوضيح ما وراء مثل هذه الزيارة وتبعاتها على المنطقة، فهذا المصطلح أصبح مظلة للكثير من ممارسات الدجل السياسي والديني، الذي يمارس في منطقتنا العربية، ومدخلا لقبول المزيد من التدخل الغربي في الشؤون الداخلية لعالمنا العربي والإسلامي، لذلك تقول جمال الدين:

إن استخدام الإبراهيمية وفقا لجامعة هارفارد، جاء ليكون مدخلا لقبول التطبيع، الذي فشلت فيه إسرائيل منذ إعلان وجودها عام 1948،

فالمصطلح لم يكن استهلاكا لفظيا بابويا؛ بل إنه هوية سياسية جديدة للدبلوماسية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، روج لها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري عام 2013، وهي تأصيل سياسي له امتداد جغرافي وديني وتاريخي قاعدته الأساسية هي "خريطة أرض إسرائيل الكبرى".

لذلك تعتبر الدكتورة هبة جمال الدين "الإبراهيمية" مدخلا للدبلوماسية الروحية، التي تقوم على الجمع بين رجال الدين والدبلوماسيين والساسة للتفاوض من الكتب المقدسة، والوصول إلى المشترك الديني لوضعه على الخريطة السياسية لإعطاء الحق للشعوب الأصلية.

لذلك حينما بدأت ثورات الربيع العربي بدأت سلسلة خطوات عاجلة يمكن تتبعها في المنطقة؛ لتغيير الخارطة السياسية انطلاقا من مفهوم تحدثت عنه مستشارة الأمن القومي الأميركي السابقة كونداليزا رايس عقب احتلال العراق، وهو مفهوم "الفوضى الخلاقة"، ثم تبعه تمدد للنفوذ الإيراني في بلدان العالمي الإسلامي بدعم وتوافق أميركي وأوروبي منقطع النظير، أبرزه كان في أفغانستان والعراق وسوريا، وحاليا اليمن، وكل ذلك في سياق تحدث عنه الكاتب المسيحي اللبناني في كتابه "استهداف أهل السنة"، يؤكد وجود مخطط لاستئصال الحواضن المحيطة بإسرائيل، والتي يمثل أهل السنة فيها كثافة سكانية عالية، ثم تبع ذلك إطلاق تنظيم "داعش"، الذي كان يستهدف فقط المدن السنية في العراق وسوريا، وينشر جرائمه في كل بقاع العالم بغطاء إعلامي غربي منقطع النظير، لنجد النظام السياسي العربي بين مطرقة التمدد الإيراني وسندان الإبراهيمية اليهودية في حالة انحطاط سياسي منقطعة النظير سلبته القدرة على استقلالية القرار.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.