شعار قسم مدونات

بين الجواز والإقامة.. عُمْر السوريين الضائع

 

مساحة الرأي مهما صغرت في عدة أسطر ومجموعة كلمات؛ لكنها قد تخفي خلفها عالما من القهر والألم والشتات والتفرقة، وبالمقابل قد تكتم خلف أحرفها أفراحا وسرورا، بين هذا وذاك، وفي ظل تجاذبات الحياة اليوم، لم يجد السوريون الذين خرجوا أو أُخرجوا من وطنهم إلى شتى بقاع العالم الاستقرار والراحة المنشودة، وظلت الكثير من الهواجس والمخاوف تنازع تفاصيل حياتهم اليومية؛ منها بل أهمها الاستقرار المؤقت إن صح التعبير، وما يترتب عليه من إجراءات قانونية ومستندات مطلوبة أولها جواز السفر والإقامة في البلد المضيف.

في ظل مسيرة هذا الشعب الذي يعاني الآلام والأحزان منتظرا خبرا مفرحا له، تجد الكثير من القصص والحكايات الصباحية والمسائية والسهرات، بين الشباب وأصحابهم وبين الجارة وجارتها، حتى بين طلاب المدرسة، القصص التي لا تكاد تخلو من قصة جواز سفر استطاع بطل القصة إصداره من سفارة معينة، أو إقامة كان صاحبها محظوظا بموافقة الجهات المختصة على تجديدها له، وبالمقابل قصص عن أولئك الذين جلسوا ضمن بقعة جغرافية كبيرة نسبيا، أشبه ما تكون بسجن لا يستطع الشخص تجاوزه، خوفا على مستقبله أو مستقبل عائلته في البلد المضيف عند أول لقاء مفاجئ له مع "البوليس"، لعدم قدرته على الحصول على جواز أو إقامة.

قد يستغرب القارئ بأن تكلفة إصدار الجواز السوري تعادل اليوم 325 دولارا إلى 800 دولار إضافة لما يترتب عليه من أوراق ومستندات وحجز موعد، ناهيك عن الانتظار لأيام حتى يتمكن من إكمال الإجراءات واستلام الجواز، ما يعطل له أعماله ووظيفته، ويبقى السؤال الأهم هو هل يستطيع من خرج من بيته باحثا عن ملجأ له أن يدفع هذا المبلغ مقابل جواز لا يمكِّنه من دخول دول العالم الأخير، وتنتهي صلاحيته خلال سنتين قد يبقى الجواز خلالهما ضمن أوراق مخبأة، أو حقيبة قديمة فيها الكثير من الذكريات عن سوريا، كمفتاح البيت والطابو؟.

لم تعد تكلفة الجواز أو الإقامة تنحصر ضمن التكلفة المادية لتمتد إلى تكلفة اجتماعية تبعد الأب عن ابنه والزوج عن زوجته والأخ عن أخيه؛ لترسخ واقع الشتات، عكس ما وجدت لأجله، وهو التجمع ولم الشمل، فكثير من الزوجات لم يستطعن اللحاق بأزواجهن في دولة أخرى لعدم حصول الزوج على الإقامة أو الجواز (وثيقة) السفر، أو أن الزوجة لا تحمل جوازا أو مستندات تمكنها من السفر.

لا غرابة أن تجد دولا كثيرة تَحرم الطفل السوري من التعليم والدخول لمدارسها؛ لعدم حصول الطفل على جواز سفر من نظام مجرم، وبالوقت ذاته تجد أن تلك الدول نفسها تقف ضد هذا النظام، ليجد الطفل والأب أنهم ضحية للعبة أكبر من حجمهما.

ولا تقل التكلفة النفسية أهمية عن غيرها، وقد تكون هي الأكثر تأثيرا، فالارتباط بجواز سفر وإقامة قد تلغى أو تعدل أو لا تجدد، يترك حالة نفسية من القلق الدائم أو الخوف من المجهول والشعور بشيء من عدم الثقة، عداك عن التفكير الدائم، فيفكر الأب عن الأسرة كلها، كيف له أن يرسل ابنه الأول لجامعة ستطلب منه جوازا ساري المفعول، وكيف يمكن للثاني أن يتزوج بدون أن يكون حاملا لإقامة البلد الذي هو فيه، عداك عن أن احتفالات الزواج والمناسبات عند السوريين في ظل الشتات أصبحت عن طريق التواصل الاجتماعي، فكم من عرس تم بدون أب؟ وكم من زواج تم بغير احتفال؟.

يعيش السوريون عموما والذين هم خارج أوطانهم على وجه الخصوص على أمل الحصول على أوراق ثبوتية كجواز دولة أخرى أو إقامة دائمة أو ما شابه ذلك، تفتح لهم شيئا في الأفق يعيشون على أمل تحقيقه، ويرسمون القدر الأكبر من أحلامهم على ذلك، مع يقينهم الداخلي بأن القلب مهما مال لهذه الدولة أو لذلك البلد، يبقى حنينهم ولا يزاحمه شيء، لبلدهم الأم.. سوريا، وبين جواز سفر أرهق حامله وإقامة أورثت صاحبها القلق وعدم الاستقرار تمر الأيام وتمضي السنون ويشيب الشعر ويهن العظم، ومعها يضيع عُمْر السوريين على أمل العودة لبلدهم.. سوريا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.