شعار قسم مدونات

أمثال العرب.. وعي جمعي واحد وهموم شتى

ما أظرف المثل القائل "يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا ريحتها"، أو القائل "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس"، أو القائل "الحجاز ياكل عكاز"، أو ذلك المتهيئ المحتاط الخليجي القائل "برز الدوا قبل الفلعة".

ولا يستغرب أحد من كتابتي في هذا الباب، فالمثل حكاية وجملة تعبر عن وعي جمعي واجه مشاكل الحياة، فضرب لها المثل، تعبيرا عما خالجه من أحاسيس، وما يختزنه من أفكار، وفي الأمثال يظهر جوهر الإنسان المشترك، فتجد المثل مشتركا بين عدة حضارات تعاقبت على موضع واحد، أو اشتركت في هم واحد.

فبينما قال المولدون "قال الفيل للبقة لم أحس بك إذ وقعت؟ فهل أحس بك إذا طرت"، وهو تلخيص لقصة سومرية رمزية تقول إن البقة اعتذرت من الفيل؛ لأنها أزعجته بجلوسها على جلده، فقال لها "من أنت؟ لم أحس بك عندما نزلت؟ ولن أحس بك عندما تطيرين".

وأظن أن أقدم مثل قيل في التاريخ الإسلامي المدرك لنا قولهم "إن لله جنودا من عسل"، قاله أحد المجاهدين بعد وقعة نهاوند، فقد تعطلت قافلة قائد فارسي مهم هو الهرمزان؛ بسبب جمال كثيرة كانت تحمل العسل، فظفر المسلمون به بعد تعب، فقالها أحد الجنود، فذهبت مثلا.

ومصر موطن الأمثال والحضارات المتعاقبة، قدمت مثلا قديما آخر، حيث قال الخارجي الذي نوى قتل عمرو بن العاص، فقتل خارجة بن حذافة رضي الله عنهما "أردت عمرا وأراد الله خارجة"، مع نهاية ذلك القرن، ظهر مثل جديد "حبذا الإمارة ولو على الحجارة"، وهو مثل عراقي ظهر زمن عبد الملك بن مروان، حينما نجح مسؤول بناء في اختلاس أثمان بعض الحجارة والرمال، فأثرى منها.

كغيرها من مظاهر الحياة والتعبير، فالأمثال تتغير وتتبدل صورها وصيغها، وفق الزمن والصور والمستجدات، فبينما يخبرنا أبو بكر الخوارزمي المتوفى 383 للهجرة، عن مثل يضرب فيمن يبالغ في أفعاله وادعاءاته وفرحه بمنجزاته "كأنه قد جاء برأس خاقان"، فقد تحول المثل في القرن الخامس الهجري، وما بعده ليصبح "كأنه جاء برأس البساسيري"، كما يذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان، أما خاقان، فلقب ملكي كان شائعا عند ترك وسط آسيا، فكان قتل خاقان حدثا مهما للمسلمين، ووقع مطلع القرن الثاني الهجري، أما البساسيري فقائد باطني بايع الفاطميين، وجهز انقلابا قضى على الخلافة العباسية مدة عام كامل، حتى دخل السلاجقة بغداد، وأعادوا الخليفة العباسي القائم بأمر الله، فيما قُتل البساسيري وجيء برأسه.

ولا تتعجب من سريان الأمثال منذ أزمنة بعيدة ليومك هذا، فمثل "للحيطان آذان" معروف حتى يومنا هذا، فهو وليد أزمنة أصحاب الأخبار والعسس والبصاصين منذ القرن الثالث الهجري زمن المعتضد العباسي فما بعده، وفي أزمنة الفتن والمجاعات والأوبئة بعد القرن الرابع الهجري راج قول المولدين "الموت مع الجماعة طيب"، وظل عند السودانيين "الموت وسط الجماعة عرس"، وإن كان مدلوله عند السودانيين على الشجاعة والمواجهة للموت.

أما في المواعظ، فقد تحول قول المولدين من "يقع في البئر من حفر"، فأصبح "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها"، ويقول السودانيون "يا حافر حفيرة -تصغير حفرة- وسع مراقدك فيها".

وأيسر من ذلك كله، فقد بقي تعبير المولدين "راسك والحايط" ليومنا هذا بأشكاله المعروفة عندنا، و"تخلص فلان بشعرة"، وهو تعبير دارج ليومنا في بلدان شتى، كما تحول قول المولدين في خبث الشخص "فلان حائط مائل لا يؤمن شره" لقول المصريين "الحيطة المايلة"، والشوام "الحيط المايل"، والخليجيين "الطوفة الهبيطة" وكلها تدل على المذلة، وكذلك قول المولدين "فلان يشتري الخصومة بخبر" يجاريه قول الشوام اليوم "يشتري الخناق شرا"، وتشبيه الخبيث بالماء تحت التبن قديم عباسي الأصل، وما يزال عند المصريين بلفظه المشهور.

بل الأعجب أن المثل ينبعث بعد نسيانه، فالحكمة تبقى من الجاهلية، ويتذكرها الناس في العصر العباسي، كما يقول الخوارزمي في الأمثال المولدة، ويحتفظ المجتمع بذكرى شخصيات، وإن لم يمنحها التاريخ اهتماما كبيرا، فحدث كفتح خرشنة في العصر الأموي، والذي وقع مجددا على يد سيف الدولة الحمداني، صار مضرب مثل في دعوة البخيل التي لا تتكرر.

وأعتذر هنا لعدم إيرادي أمثالا معاصرة من المغرب العربي والقرن الأفريقي لعدم معرفتي بها.

وفي مقالات مقبلة أتناول جوانب متنوعة من الأمثال بحوله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.