شعار قسم مدونات

آهاتٌ في لحن الغربة والحنين.. رسالة إلى والدي

 

عندما تسد بوجهك الطرق، فلا بد من سلوك السبل الممكنة لإرسال آهاتك نحو عالم آخر غير عالمنا، آهات في لحن غربة قاتلة وحنين موحى به من عالم المغادرين..

هذا ما اضطر إليه إبراهيم سلمان، الذي كان في طفولته سببا لصراع عائلي عشائري في ستينيات القرن الماضي، أدى بالنتيجة لمقتل والده وأخيه وعمه، وإصابة أخيه الآخر بهَوَس ينتهي باختفائه النهائي.

أما إبراهيم نفسه فيلجأ إلى ترك بلده أولا من كردستان إلى بغداد؛ ليقضي فيها 20 سنة من حياته، ومن بغداد إلى هولندا ليقضي فيها 40 أخرى، ثم بعد كل هذه السنين من الغربة يعود إلى كردستان باحثا عن الآثار، فالحنين يجذبه إليها، إلى آثار من رحلوا فلا يجدها، يبحث عن القبور بدون جدوى، یصل إلى من دفن والده، وهو في أرذل العمر، ليدله على مكان الدفن، فیقول هو:

دفنت زوجتي قبل سنوات لا أعرف مكانها الآن،

فكیف لي أن أعرف مكان دفن والدك، وهو مقتولٌ من 45 سنة.

يترك إبراهيم المكان حابسا آهاته في صدره حتى يبتعد، فيطلقها لعالم الأرواح جالبا معه روح والده ليتحدث معه.

أولا يعاتبه لأنه لم يسمع كلامه عندما نصحه عام 1974 بألا يلتحق بالثورة الكُردية، ولا يأخذ والدته وأخته وأخاه معه؛ لأنه سيُقتل هناك بأيدي قروييهم، الذين بينهم عداوة؛ لكن والده قال:

هذه ثورة يا إبراهيم ثورة، إذا أنا لم أكن لها فمن سيكون؟.

الخلاف بين إبراهيم ووالده يستمر عندما يطلب منه والده بأن يلتحق هو أيضا بهم في الثورة؛ إلا أن إبراهيم يفضل البقاء في بغداد للدراسة.

فيذهب الوالد للثورة في الجبال، ويعود إبراهيم للدراسة في بغداد، لتكون تلك الساعة من شتاء 1974 آخر لحظات لقائهما في هذه الدنيا، وليس بعدها لقاء حتى هذا الفيلم الوثائقي الروائي، الذي يعمله إبراهيم بعنوان (رسالة إلى والدي) ليغلق من خلاله حاجز 45 سنة من الافتراق، فيريد والده حيا معه حتى إن كان في عالم الرواية والفن والخيال.

هكذا يظهر إبراهيم أولا اعتراضاته على والده واعتراضات والده عليه، وكأنهما نقيضان، بين مفهوم الثورة والالتحاق بها، ومفهوم معرفة النتائج المسبقة لها.

حتى عندما يلتحق إبراهيم بالثورة بعد 5 سنين من التحاق والده ومقتله، يخلق شبحا لوالده يخرج من قمة جبل ليقف في طريقه معترضا "ارجع. ألم تكن أنت من نصحتني ألا ألتحق فلم أرضخ لنصيحتيك حتى قتلت، فلا تذهب ستُقتل".

لكن إبراهيم العنيد يرد "لا يا والدي، فنحن في زمان غير زمانكم، وقد اختلفت الظروف".

لكن يظهر خطأ إبراهيم عندما يصطدم بواقع مر، وقبل أن يحل به ما حل بوالده يترك البلاد نهائيا مهاجرا إلى هولندا.

في قمة معاناة إبراهيم بعد أن فقد كل أهله، يمحي من داخله نزعة الثأر عندما يقول "إنها من آثار التخلف، وهي التي تديم أمد العداء والقتال، ويجعل منها سببا لقتال كُردي كُردي" ذلك القتال الذي يبغضه إبراهيم.

لكنه في الوقت نفسه يريد أن يدخل في عالم مشاعر والده عند أضعف مراحله، عندما يقتل وهو مشلول، لا يقدر على حمل سلاح، ولا يقدر على الدفاع عن نفسه..

يطلب من والده أن يصف له شعوره عندما أصابته طلقة نارية غادرة وهو مشلول؟ تلك الرصاصة التي أسقطت عمامته، واخترقت رأسه أمام ابنه إسماعيل -شقيقُ إبراهيم- ذي 14 ربيعا، والذي أصيب بهوس عندما رأى والده جثة بين يديه غير قادر على شيء، ذلك الهوس رافق إسماعيل بقية حياته حتى اختفائه النهائي بعد 5 سنوات فهو ذهب ولم يعد.

يسأل إبراهيم والده عن عالمه الذي هو فيه، كيف هو؟ هل الجنة جميلة فعلا كما يقولون؟ فهو قُتل مغدورا ولا بد أن يكون هناك.

ثم يسأل والده عن الآخرين الذين رحلوا هل يلتقون هناك؟ عندما يلتقون عن ماذا يتحدثون؟ هل يعرفون وضعنا بعدهم؟.

يأخذ بوالده في جولة ليريه كردستان بعد 45 سنة من مقتله؟ كردستان تلك التي كانت هم والده الأكبر، وكان يكره أي هم آخر يشغله عن هم كردستان.

هي كيف صارت؟ وأين وصلت؟

بين ما هو مفرح وما هو محزن، وبين ما هو جاد وما هو ساخر، وما هو تراجيدي أو كوميدي، تكون الجولة.

فهذا هو برلمان كُردستان؛ لكن ما يزال يرفرف عليه العلم العراقي، رغم أن الإقليم أجرى استفتاء الاستقلال، وصوّتت الغالبية العظمى من الشعب للدولة، فيبلغ إبراهيم والده أن الدولة لا تكون برغبة كردية، فالعالم الآن ينافق الكُرد، هو ذلك العالم نفسه الذي قسم كردستان، وغدر بالكُرد سابقا، ويغدر بهم الآن، وسيبقى يغدر، العالم الذي لا يريد للكُرد أن تكون له دولة مثلما هي للآخرين.

أو بالأحرى الكُرد أنفسهم لا يريدون دولة، فلو كانوا يريدونها فعلا لما وقف أحدهم ضد الآخر، ولما كانت الخيانة علامة بارزة في كل حركة وثورة كُردية، مثلما كان في الاستفتاء الذي حدث.

ثم يزور المناطق، التي تحرك فيها الزعيم ملا مصطفى البارزاني في ثورته من 1961 حتى 1975، ويستنبط منها الأحداث التي وقعت ويقرؤها بنظرته الخاصة، نظرة اليوم لا نظرة الأمس؛ بل نظرة إبراهيم لا نظرة الآخرين.

على ضريح البارزاني يجد العشرات من الرجال والنساء يأتون للزيارة، وهم في أبهى صورهم وأجمل ملابسهم، وفي هيئة عرس واحتفالية أكثر من كونها زيارة ضريح، بين من يقرأ الفاتحة عليه، وبين من يضع إكليلا من زهور.

يسأل إبراهيم روح والده "أبي إذا التقيت بروح البارزاني حاول أن تعرف منه؛ هل هو سعيد فعلا بهذه الزيارات إلى ضريحه؟ وهل يعرف من أوجه هؤلاء نواياهم الحقيقية؟ فيما إذا كانت فعلا هي زيارات مخلصة أو زيارات رياء".

هكذا يعطي إبراهيم الحرية لنفسه ليرى الأشياء وفق ما يرغب هو، لا وفق ما يرغب به غيره.

حتى في نصب الشهيد، يكون لإبراهيم رؤيته الخاصة، حيث يراه مكانا خاويا لا أحد هناك، فيلقي ببعض همومه للنصب، ثم يشتكي قائلا "حتى نصب الشهيد الكردي هذا ليس كنصب شهداء الآخرين، فيبدو أن الرصاصة أصابته من الوراء وأسقطته أرضا".

أوحي من ذلك لإبراهيم أنها قد تكون رصاصة خيانة أو من قتال كُردي كُردي.. كما الرصاصة التي اخترقت رأس والده وطرحته أرضا، وأنهت حياته، وهو في أشد مراحل ضعفه.

لا ينسى إبراهيم المؤنفلين، فيبلغ والده ماذا حدث وكم قُتل من الشعب وكم دُمّر من القرى، وكم دُفن من أحياء، فيأخذ بوالده إلى مقبرة المؤنفلين مرسلا آهاته للهواء الطلق، في ربيع يبدو أنه الربيع شكلا؛ لكنه الخريف مضمونا، كما عادة ربيع كُرستان، ففيه تجتمع الكوارث.

لا يكتفي إبراهيم في جولته مع أبيه داخل كردستان؛ بل يأخذ بيده في زيارة إلى هولندا، يريه العالم هناك، ثم يريه ما فعله إبراهيم من أجل القضية الكردية تلك القضية التي جعلها والده حِملا على كاهل إبراهيم، قائلا له "أوصل قضيتنا للعالم يا بني..".

فلا يكون بعد ذلك من مأساة إلا وله كتاب أو فيلم أو مسرحية، ولا برنامج تلفزيوني عن القضية الكردية إلا وله مشاركة، وليس هناك من محفل إلا وهو هناك ليتحدث عن القضية.

لا يخفي إبراهيم كم كان الحِمل ثقيلا، ويخشى أن يعاتبه والده، فيقول له "لم تفعل شيئا".

بعد أن يرى حال القضية الكردية بعد 45 سنة من مقتله.

اليأس يسيطر على إبراهيم في النهاية عندما يقول بعد كل ما شاهده الكُرد من معاناة وبعد كل الثورات والحروب وبعد كل الفرص التي سنحت، فإن الأمل يمسي معدما في أن يصبح الكردي صاحب وطن وعلم ودولة أسوة بالآخرين؛ لكنه يرفض أن تكون نهاية فيلمه مغلقة؛ بل مفتوحة لكل الاحتمالات.

هذا الفيلم سيكون على شاكلة قصيدة طويلة، يحاول فيها إبراهيم أن يجعل من قصته الشخصية قصة كل فرد يعيش في شرقنا الأوسطي؛ جاعلا منها قصة ذلك المجتمع الذي يراه إبراهيم مجتمعا مسيطرا بالنعرات الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية، باختصار خرجت كلمات إبراهيم من كونها مجرد كلمات؛ لتكون آهات وابتهالات وشعر وموسيقى، أحيانا نقد موجه وأحيانا أخرى نقد ذاتي.

القصة خرجت من القلب لتكون موجهة للقلوب ومؤثرة فيها.

إنه فيلم (رسالة إلى والدي) للمخرج الكردي الهولندي إبراهيم سلمان، الذي حاز على المركز الأول في مهرجان كلكتا الدولي في الهند مؤخرا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.