شعار قسم مدونات

فيما يرى النائم

 

أنظر في المرآة الشحوب ذاته، هالتان سوداوان تتحلقان حول العينين، أمُدّ يدي إلى طبق الطعام أمامي، أمضغ كسرة خبز، الطعم نفسه، مذاقها ليس غريبا، أعرفه جيدا، يبدو أنه الحلم نفسه، الذي يتكرر كل يوم، ملمسها على لساني غير مستغرَب ستصيبني ظغصة في حلقي بعد قليل عليّ أن أبحث عما أزيلها به.

يُفتح الباب فجأة، اضطربت فرائصي، علقت قطعة من الخبز بحلقي، ها هي الغصة من جديد، التفاصيل نفسها تتكرر كل منام، أين الماء الذي رددت به الغصة في حُلمي؟ كان محلّى بماء الورد.

يدلف كهل كث الشارب بزيّ عسكريّ وبيده إناء ماء بارد، يصب بعضا منه في كأس معه ويسقيني، أشرب وأرتوي وتذهب غصتي، شكرته. نظرت إلى حدقتيه الزرقاوين، حدّقت فيهما، غامضتان كصبح شاع فيه الضباب فحجب رؤيته، دعتاني إلى الدخول فدخلت، فإذا ليلة مطيرة مظلمة، شارع طويل لا أكاد أرى آخره، لبست سترتي الجلدية السوداء، أحكمت إغلاقها. الجو بارد، كتلٌ ثلجية تتتابع تترا، زخّات رصاص تُسمع من بعيد، أتحدث مع أحد السائرين في الشارع بلغة لا أعرفها؛ ولكنني أتقن الحديث بها، إنها الروسية.

أشهر مسدسه تلقاء وجهي، انطلقت منه رصاصة ملتهبة مرت بجانب أذني، سيسألني الآن:

– شيشاني أنت؟ من أهل هذه الأرض؟

سأجيبه؛ لكنه لم يسأل بعد، لم أكد أنتهي من حديث نفسي حتى سأل السؤال نفسه.

أجبته أن (لا).. نظرت إلى فوهة مسدسه، تنطلق منه رائحة البارود الخانقة، دخان أبيض ثلجي ينبعث منها بغزارة، شكَّل سحبًا متكاثرة بيضاء في يوم مشمس، حدقّت في السحب مليا، وجدتني أنجذب إليها قسرا. حلَّقت فإذا مناوشات بين الشيشانيين والروس، رصاص في كل مكان، أرضية الشارع لامعة برّاقة، أشعة الشمس تنعكس على برك ماء بالشارع، وتسري في أعصابي أجواء دافئة، أجري مع فلول الشيشانيين حتى أقع على الأرض، أشعر بسخونة عند أسفل بطني، اصطبغت ملابسي بلون أحمر برَّاق؛ إنه دمي.

الآن سأستيقظ من حلمي وأجد دمعتين على وجنتيّ، تلك هي التفاصيل التي تتكرر كل ليلة، أضع يديّ على الدم، تخضبتا، بالكاد حملتهما، ألقيتهما على رأسي، فزت ورب الكعبة.. الآن سأصحو، أحسست بروحي تُنتزع من قدميّ.. ركبتيّ.. كتفيّ.. أنطق بالشهادة، الآن سأصحو، أحاول فتح عينيّ جاهدًا، لم أستطع.

اكتشفت في هذه اللحظة أنني..

لم أكن أحلم.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.