شعار قسم مدونات

سجدة في باحة الرق

 

طرقت الباب بكفها الواهن، انتظرت طويلا على أمل أن يفتح لها، ويستقبلها بوجه بشوش، لا تعرفه ولم تره قبل هذا الحين؛ لكن في الطريق كانت تحاول أن تتخيل صورته.. طويل، دقيق الملامح، ناعم الشعر، خفيض الصوت، يرتدي سترة جلدية طويلة بنية اللون وربطة عنق فوق قميص بـ5 أزرار، حذاؤه لامع، بنطاله مُنشَّى، على درجة عالية من الوسامة والجمال.

تطلعت في المكان، فإذا بسيارة فارهة على يسار المنزل، وبالخلف حديقة واسعة، وبأعلى المنزل يتصاعد دخان المدفأة أبيض بلون الثلج، درجة الحرارة تحت الصفر في هذا المكان من العالم. عادت للوجوم من جديد، لا تدري كيف ستستقبله، تتمنى لو تلقفته في أحضانها؛ لكنها لا تعرفه.. ترددت، لم تتمكن -طوال مدة السفر وهي في القطار- من أن تحسم أمرها.. أتعاتبه أم تتناسى الأمر وتبدأ صفحة جديدة لتتدارك ما فات؟ تركت الأمر للظروف.

استعادت وعيها وطرقت الباب من جديد، يبدو أنه لا أحد بالمنزل. التفتت جهة اليمين واليسار، تفتش عن أحد الأحياء بالمكان، لم ترَ أحدا.. استدارت واستعدت للمغادرة، فإذا بالباب يُفتح نصف فتحة، ويُطِلُّ منه شاب في الثلاثينيات "جورج آدمز" عقل متفتح، ومكانة مرموقة، وعائلة عريقة في نيويورك، وأبوان ذائعا الصيت.

تهللت أساريرها؛ لكن أصابها الارتباك، إنه هو كما سبق أن وُصف لها، وكما تخيلته.. طويل، دقيق الملامح، ناعم الشعر. حدّقت في وجهه برهة، ربما تتقصَّى عن اسمه بين ملامحه، أو علامة مميزة تستيقن منها عن شخصه.

-من أنتِ؟ -هكذا فاجأها-.

-كارولينا. -تضغط على الحروف المتسارعة؛ لتمنعها من الانطلاق-.

-ألا أشبه أحدا تعرفه؟

حدق في وجهها كثيرا قبل أن يحرك رأسه بالنفي.

-لم أزل أتخيل صورتكَ أثناء سفري، أعتقد أنني وصلت لبغيتي، أنت مستر آدمز؟

-نعم أنا.. هل أعرفك؟

أجابت بابتسامة خجولة ورغبة في الدلال:

-تعرفني ولا تعرفني.

بدا الامتعاض على وجهه.

-أرجوكِ لا وقت لدي لمزاحكِ، هل أعرفكِ؟

-أنا.. أنا ابنتك.. كارولينا.

-ابنتي أنا؟

-نعم.. تذكَّر منذ 16 عاما قابلتَ فتاة خرجت لتوها من بيت أبيها في إحدى الضواحي الجنوبية للمدينة، لم تجد مكانا تبيت فيه فآويتَها ليلتين، وانصرفت، أنا ابنتكما كارولين.

واجما نظر إليها، حاول العودة إلى ذلك التاريخ جاهدا، لم يتذكر ملامح الفتاة، ولا اسمها، وإنما تذكر هاتين الليلتين على وجه الخصوص، كانتا ليلتين مميزتين بالنسبة له.

-نعم تذكرتُ؛ ولكن.. ولكن ماذا يثبت لي أنك ابنتي؟

دفعت إليه بعض الأوراق والأغراض.

-يمكنك التأكد.. لقد أكدت لي أمي أنك والدي، هذه حافظة نقودك، لقد أخذتها أثناء مغادرتها المنزل، وفيها بطاقة هويتك وبعض الأوراق الأخرى، تفضل.. يمكنك التأكد منها.

أخذ الحافظة الممزقة، قلّب فيها ناظريه، ثم أعاد النظر إلى الفتاة، تأمل فيها، فإذا هي ابنة 15 عاما. في سن أمها يوم أن قابلها، تأمل في قسماتها، فأعادت إلى ذاكرته بعض ملامح الأم الفتاة، الأنف المدبب، العين الغائرة، الجبهة العريضة. يكاد يراها الآن وهي تعبر الطريق، وتتسلل إلى الحانة. اقتحم الباب وراءها وتعارفا، وطلع النهار وهي على سريره. هي هي أمها، الملامح ذاتها، الصوت نفسه، الهيئة بكل تفاصيلها.

تبادلا النظرات برهة. لا يدري أيٌ منهما ماذا يفعل. هل يتعانقان عناقا باردا كصقيع بلادهما أم يتبادلان الاتهامات بغياب أحدهما وعدم اكتراث الآخر؟ لكن شيئا من ذلك لم يحدث. انسلت إلى ردهة المنزل الفسيح -بعد أن أدخلها راغما- وانتظرت عودة الوالد الشاب.

قلّبت بصرها في المنزل الفارِه، المدخل الفخم في أدنى الردهة، والصالون الإنجليزي في أقصاها، والمشرب يتوسط المكان بكؤوسه وقنانيه، حياة مختلفة عما عاشته في قريتها. عاد الوالد الشاب بغير الوجه الذي ذهب به، انقبضت وشعرت بفتور هادر، يتهرب من النظر إلى عينيها.

-تذكرت.. أنت ابنة العاهرة؟

-عاهرة لأنها أحبتك!

-أحبتني؟ في يومين؟ فقط أرادت مكانا يؤويها، وكان جزائي أن سرقت حافظة نقودي.

-لا تكن قاسيا.

-قاسيا؟ من أنت لتتحدثي عن القسوة؟ هكذا نعيش، أميركا كلها هكذا تعيش، لا مكان هنا لضعيف، كلٌّ يدفع ثمن ما يأخذ، ولقد أخذتْ هي ثمن ما أخذتُ أنا.

-ولكنني ابنتك.. لحمك ودمك، أيًّا كانت المبررات، هذه هي الحقيقة.

-وماذا تعرفين عن الحقيقة؟ الحقيقة أنني لا أعرفك، ولا رأيتك قبل الآن. ولماذا الآن؟ تبحثين عن أبيك؛ لأنك تفتشين عن لقمة وثوب.

تسابقت على خديها الدموع النافرة، وهتفت بصوت خنقته العبرة:

-لقد جئت أبحث عن أبي، عن حضن يؤويني ويحميني، عن كيان أفتقده في زحمة البؤس الحضاري الذي أغرقني.

-أنت خطيئة، وعليكِ أن تسددي فاتورة العبث.

-ولماذا أسدّد وحدي؟ ألستَ أبا لهذه الخطيئة؟ ألم تخطئ أنت كذلك؟ ألم تسر خلف نزوتك وشهوتك؟

-نزوتي؟ هذه حياتنا.. حياة معقدة، منظومة مبنية على قواعد، ويا ويل من يسعى في تحطيمها.

-وما دام كذلك فلماذا تلومني، وأنا المبرأة من ذنبك وذنب أمي؟

-ومن ألوم إذن؟

-فلتلم نفسك.. المجتمع.. القوانين. فلتلم أميركا التي شرعت القنص لأجل المال، التي علمتك وعلمتنا كيف نستحل أي شيء في سبيل الحصول على ما نريد؛ ألا ترى أن الدول تأتي راغمة بنفطها وفوهة المسدس في دماغها؟

ساد الوجوم برهة تبادلا فيها نظرات بائسة، يتعمّد من جديد صرف عينيه الجريئتين الغاضبتين عن عينيها الدامعتين الذابلتين.

-أنتِ كبيرة بالقدر الكافي لتعتمدي على نفسك وتشقي طريقك وحدك. بالولاية كثير من الوظائف وفرص العمل.

حملت متاعها وحدَّقت في عينيه طويلا. غاصت فيهما وكأنها تفتش في أعماقه عن شيء ما، طافت في حضيض قاعه، فلم تجد سوى صورة لتمثال الحرية، ومن حوله عرايا ساجدون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.