شعار قسم مدونات

بايدن والشرق الأوسط .. تحسن في السياسة أم مزيد من الخراب؟

 

انتهت مرحلة ترامب ودخلت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها بطبيعة الحال العالم بأسره ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، مرحلة جديدة تبدو مختلفة تحت قيادة الرئيس جو بايدن. في هذا المقال سنحاول استشراف وتحليل السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الأربعة القادمة.

يعتقد كثيرون حول العالم وفي منطقة الشرق الأوسط بأن السياسة الأميركية في المنطقة ستتغير بشكل كبير تبعا لتغير ساكن البيت الأبيض. يبدو هذا الرأي منطقيا للوهلة الأولى؛ نظرا للاختلافات الجذرية بين شخصيتي الرئيسين السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن، ونظرتهما للعالم ولدور الولايات المتحدة الأميركية. في الحقيقة، وإن كنا نرى شيئا من المنطقية في وجهة النظر هذه؛ إلا أننا لا نشاطرها الرأي، بل على النقيض من ذلك، فإننا نرى بأن السياسية الأميركية في الشرق الأوسط ستبقى ثابتة، ولن تتغير في عهد بايدن.

لكن مهلا، قد يقول قائل، ألا يوجد الكثير من المبالغة في هذا الكلام؟ كيف يمكننا القول أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ستبقى ثابتة، بينما تبدو مؤشرات التغيير واضحة للعيان منذ اليوم الأول لتسلم الرئيس الجديد لمقاليد الحكم في البلاد؟ انظر إلى موقف بايدن من إيران وملفها النووي، ومن حل الدولتين، ومن السيسي وابن سلمان وأردوغان؛ ألا ترى التغيير واضحا بالعين المجردة وبدون الحاجة إلى مجهر؟.

صبرا علينا أعزائي القراء.. نعم، أنتم محقون التغيير واضح؛ لكن في أدوات السياسة لا في نتائجها. بمعنى آخر، التغييرات الملحوظة على السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط تبقى محصورة بالمستوى التكتيكي، أما الإستراتيجيات الكبرى الأميركية في الشرق الأوسط، فهي ثابتة، ولم تتغير بتغير الرؤساء. كيف ذلك؟

في الحقيقة، السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لم تعد عمليا من اختصاص الرئيس الأميركي أو وزارة الخارجية؛ إلا في أضيق حدود المناورة، بل أصبحت من اختصاص اللوبي الصهيوني، الذي صار صاحب القول الفصل في رسم سياسات أميركا في المنطقة. الرئيس الأميركي يتغير كل 4 أو 8 سنوات، أما اللوبي الصهيوني، فهو ثابت الرؤية والأهداف، ولا يغير وجهة سياساته. دعونا نتناول هذا الموضوع في 3 محاور:

 

أولا: قوة ونفوذ اللوبي الصهيوني في واشنطن

في الحقيقة، إن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ليست حرة، وليست مرتبطة بمصالح الدولة الأميركية وأمنها كما يتخيل الكثيرون؛ بل إنها تابعة تبعية شبه مطلقة لإرادة جماعات الضغط الموالية لإسرائيل، والتي تشكل الجزء الأهم من عالم المال والثراء المسيطر في الولايات المتحدة الأميركية.

لم تعد وجهة النظر هذه مجرد وجهة نظر مبنية على تحليلات أو استنتاجات عامة؛ بل باتت مدعومة بالكثير من الأدلة مثل قصف إسرائيل للباخرة الأميركية "يو إس إس ليبرتي" (USS Liberty)، وقتل 34 بحارا أميركيا على متنها بدون أن تلقى أي رد فعل أميركي، مرورا بتسليم أميركا السرب الوحيد لديها من الطائرات المتطورة المزودة بصواريخ "مافريك" (Maverick) إلى إسرائيل، وموافقة الكونغرس الأميركي بأغلبية 98% من أعضائه على قرار بإلغاء كل القيود على المبادلات التجارية مع إسرائيل، رغم تحفظ وزارة التجارة الأميركية على ذلك، ومعارضة كل النقابات وغير ذلك كثير.

لم يتوقف داعمو إسرائيل عن إحكام قبضتهم عاما بعد عام على كل مفاصل السياسة الأميركية في الكونغرس والبنتاغون والاستخبارات، ووصولا إلى البيت الأبيض مستخدمين كل الوسائل المتاحة. وعلى ضوء ذلك تمكنت "إسرائيل" من الحصول عام 2016 على صفقة مساعدات عسكرية تعد الأكبر في تاريخها بقيمة 38 مليار دولار تحت إدارة أوباما. أما ترامب، فقد وهب نفسه لخدمة إسرائيل، فأعطاها أغلى ما تتمناه، وهو اعترافه بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل واعترافه بالجولان السوري المحتل جزءا لا يتجزأ من إسرائيل، وكذلك رعايته لاتفاقيات التطبيع مع العديد من الدول العربية. (تجدر الإشارة هنا إلى أن خسارة ترامب في الانتخابات الأخيرة أمام بايدن رغم كل ما قدمه لإسرائيل خلال فترة ولايته، لا تعني مطلقا، ولا تشير بحال من الأحوال إلى ضعف أو خسارة اللوبي الصهيوني. في الحقيقة، في مقال سابق لم يتم نشره، كنا قد توقعنا فوز بايدن في الانتخابات؛ لأنه سيحصل على ورقة "أيباك" (AIPAC) الرابحة بدلا من ترامب لعدة أسباب، وبالفعل فاز بايدن كما توقعنا. سنعود مرة أخرى لتناول هذا الموضوع بالتفصيل في مقال منفصل إن شاء الله).

في المحصلة، إن خير تلخيص لمستوى نفوذ إسرائيل في أميركا هو ما أورده السيناتور المعروف "بول فندلي" في كتابه الرائع "من يجرؤ على الكلام.. الشعب والمؤسسات في مواجهة اللوبي الإسرائيلي"، عندما قال

إن تأثير رئيس وزراء إسرائيل على السياسة الخارجية الأميركية

في الشرق الأوسط أكبر بكثير من تأثيره في بلاده ذاتها.

 

ثانيا: ثبات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط

حسنا، كما أشرنا أعلاه، فالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط يتم رسمها من تل أبيب وداعميها الأقوياء في واشنطن. استنادا لذلك فإن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بقيت ثابتة عبر جميع الإدارات، التي حكمت البيت الأبيض إذا نظرنا لمضمونها لا لقشرتها الخارجية.

الإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة بسيطة للغاية، "إثارة النعرات الطائفية والمذهبية في المنطقة" تمهيدا لتفتيتها إلى كيانات ضعيفة متناحرة؛ لتبقى إسرائيل هي القوة الوحيدة والمسيطرة، ولتستطيع تحقيق أحلامها في "إسرائيل الكبرى".

من أين أتينا بهذا التحليل؟ في الحقيقة هذا ليس تحليلا؛ بل هو كلام صريح للغاية على لسان قادة الصهاينة ومنظريهم. هذا الكلام موجود وبوضوح تام في كتاباتهم ومقالاتهم ومذكراتهم عن أرض الميعاد وأرض الأجداد وإسرائيل الكبرى. اقرأ إن شئت مذكرات ثيودور هرتزل أو حاييم وايزمان أو ديفيد بن غوريون أو عوديد أونيون أو ناحوم غولدمان أو حتى بنيامين نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس".

إن المتابع للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط لا يجدها تحيد أبدا عن تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي ذي الطبيعة الأيديولوجية لإسرائيل. فجورج بوش الأب والابن استعملا القوة العسكرية بتحريض وضغط إسرائيلي، عندما كانت القوة ضرورية لتدمير العراق. أما أوباما وترامب فلم يتدخلا لإيقاف الحرب الدائرة في سوريا، وذلك بغطاء إسرائيلي واضح، لتركها تتدمر. لاحظ هنا اختلاف السياسيات بين من تدخل عسكريا وبين من لم يتدخل، أما النتيجة فهي ذاتها تدمير العراق بالتدخل، وتدمير سوريا بعدم التدخل. وهكذا دواليك في الملفات الأخرى. إن نية تقسيم المنطقة واضحة للعيان في كل خطوات الولايات المتحدة في المنطقة. انظر مثلا إلى موقفهم من استفتاء كردستان العراق أو من دعم الأكراد في سوريا أو حتى من دعم حفتر بشكل غير مباشر في ليبيا. إن التدخل التركي في كل من سوريا والعراق وليبيا هو الذي أجهض هذه المحاولات، وهذا ما يجعل من تركيا العدو اللدود الأول، الذي يجب التعامل معه في عهد بايدن كأولوية؛ لكن هذا بطبيعة الحال لن يكون سهلا عليهم.

ثالثا: مستقبل المنطقة في عهد بايدن

لن تتوقف السياسة التدميرية لواشنطن بالشرق الأوسط في عهد بايدن حتى إن غيرت جلدها. الرئيس الجديد ومنذ الأيام الأولى لحملته الانتخابية قدم عدة قرابين انتخابية على مذبح أيباك كالتالي:

محاولة هز استقرار تركيا من خلال دعم المعارضة؛ فقد شن بايدن هجوما لاذعا على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووصفه بالمستبد الذي يجب أن يدفع الثمن. كما تعهد بايدن بأنه سيعمل على دعم المعارضة التركية حتى تتمكن من هزيمة أردوغان.

هز استقرار السعودية من خلال التطبيع وإيقاف الدعم في حرب اليمن، حيث هاجم بايدن السعودية والأمير محمد بن سلمان شخصيا محملا إياه وزر ارتكاب جريمة قتل خاشقجي، ومتعهدا بمحاسبته. لذلك فإننا نرى أن جريمة اغتيال خاشقجي ستعود للواجهة مرة أخرى لابتزاز الأمير بن سلمان. هذا الابتزاز سيترجم غالبا في صورة توقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل. كما أن قطع الدعم العسكري عن السعودية في حربها ضد الحوثيين سوف يهز من صورتها، ويضعفها أكثر.

الموقف من إيران، من المتوقع أن يخفف بايدن من حجم الضغوط الاقتصادية القصوى، التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب حاليا عليها. هذا برأينا يتماشى أيضا مع السياسة العامة الإسرائيلية (الخفية لا العلنية) تجاه إيران، والمتمثلة بفترات متعاقبة من الضغط، ومن ثم الانفتاح لتحقيق الهدف؛ وهو منع إيران من النهوض والتطور حتى لا تشكل قوة تهدد أمن إسرائيل من جهة، والسماح لها بالتنفس من حين لآخر حتى تستطيع الاستمرار في سياساتها التخريبية في المنطقة، والتي تصب في النهاية بمصلحة إسرائيل سواء علمت ذلك إيران أم لم تعلمه.

الملف المصري، إذ توعد بايدن الرئيس المصري بالحساب. في الحقيقة إن رفع الدعم والشرعية الأميركية عن عبد الفتاح السياسي، قد يؤدي إلى اضطراب المشهد المصري كليا. مع ذلك، برأينا سيبقى الملف المصري حاليا في القاطرة الخلفية، وستبقى الأولوية للملفات الثلاثة الأولى أعلاه.

الملف الفلسطيني وملف التطبيع، في هذا الملف، لن يتراجع بايدن، وهو في الحقيقة ليس قادرا على التراجع، عن كل "المكتسبات" الإسرائيلية، التي تمت في عهد ترامب من اعتراف بالقدس أو الجولان. أما بالنسبة للتطبيع، فقد قالها بايدن صراحة بأنه سيبني على ما تم تحقيقه في عهد سلفه. أما صفقة القرن، فسيتم تغيير تسميتها وبعض ملامحها حتى تصبح قابلة للتمرير؛ لأنها بصيغتها الفجة المقترحة في عهد ترامب لم تكن قابلة للتسويق.

الملف الليبي، سيترك هذا الملف حاليا لقليل من الراحة، وسيتم التعامل معه تبعا لنتائج التعامل مع الملف التركي.

الملف السوري، تم إنجاز المهمة بنسبة كبيرة وتدمير البلاد. ولم تنجح محاولات التقسيم بسبب تدخل تركيا، وسيؤخذ هذا الملف نحو فصل من الراحة في الفترة المقبلة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.