شعار قسم مدونات

(كي لا تنتصر العصا) .. هوس التربية الإيجابية

 

تَفَشَّى في الآونة الأخيرة بين الآباء والمُرَبِّين مصطلحُ "التربية الإيجابية"؛ وهو يَحمل في طَيَّاته لفتاتٍ تربويةً مفيدةً، تجعل عملية التربية تسير وفق أُسُس وقواعد من أجل إخراج إنسانٍ قويمٍ أخلاقيًّا، سليمٍ نفسيًّا، بعيدٍ عن تشوُّهاتِ عمليةِ التربيةِ العشوائيةِ التي تَشوبها أخطاء كثيرة؛ أشهرها: القمع والإجبار.

ومع الوقت ظهرت كتب كثيرة ومقاطع مرئية تتحدث عن التربية الإيجابية، ولكن يبدو أن ذلك المصطلح تَعرَّض لنَفْس عملية الاغتيال التي تَعرَّض لها من قبل مصطلح "التنمية البشرية"؛ من كثرة ما أَدلى السقاةُ بدَلْوِهم فيه حتى فاضَ وأغرَقَنا، وصار حديثَ مَن يُحسِن ومَن لا يُحسِن!

أحاول في هذا المقال لفت النظر إلى بعض السلبيات التي ظهرت بسبب تدفُّق المعلومات الغزيرة التي سالت في ذلك في المجال دون رابط؛ لضبط الميزان الذي أصبح مُختَلًّا بكثرة المُطَفِّفِين ومُحبِّي التجارة والتربُّح من تلك المصطلحات؛ وتتلخَّص تلك السلبيات فيما يلي:

 

الطرح المثالي:

هناك قاعدة فقهية مشهورة تقول:

الحُكم على الشيء فَرعٌ عن تصوُّره؛

أي إنه لا بُدَّ من تصوُّر ذلك الشيء المعروض لإصدار الحُكم فيه؛ بمعنى فَهْمه واستيعابه بدرجة تُمَكِّن الناظر فيه من أخذ فكرة متكاملة عنه، وهو للأسف عكس ما يَحدث من كثيرٍ من مُوجِّهي التربية الإيجابية، فيَطرح النظريات والقواعد دون تنبيه المُتلقِّين إلى أنها "نظريات" تُعبِّر عن المستوى المثالي، وأن المطلوب ليس تحقيق تلك النظرية بنسبة (100%)، فيصاب المُرَبِّي بالإحباط بسبب مقارنة حاله بحال التصوُّر المثالي المُكوَّن في ذهنه.

إن تلك الإشكالية التي يَتعرَّض لها المُرَبُّون هي نَفْس إشكالية "التصوُّرات الذهنية الخاطئة" التي يَتعرَّض لها مَن يرى فيلمًا رومانسيًّا، فيبني تصوُّرًا مثاليًّا عن الزواج دون أدنى إدراكٍ عما وراء الكواليس من حزنٍ أو كَدَر أو مشكلات، فهو يستعرض نصائح المُوَجِّه بنَفْس طريقة الفيلم الرومانسي دون مراعاة مثالية الطرح، ودون الاطلاع على ما وراء الكواليس من صعوباتٍ ومشكلاتٍ في التطبيق.

الأصل أن النظريات الاجتماعية تحتمل في تطبيقها الخطأ؛ مثل النظريات السياسية والاقتصادية والتربوية، فتلك نظريات تتعامل مع المجتمعات والبشر، وهي عَيِّنة تجربة مَرِنة مُتغيِّرة ليس فيها نِسَبٌ ثابتة، بعكس نظريات العلوم الكَمِّيَّة كالفيزياء والرياضيات؛ إذ إن تحقيق (70% أو 80%) من النظريات التربوية المطروحة لا يُعتبَر فشلًا، بل هو النجاح بعينه.

يقول النبيُّ -عليه الصلاة والسلام-: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا»؛ أي اطلبوا السَّدَاد واعملوا به، وإن عجزتُم عنه فقارِبوه. والسَّدَاد هو: وَضْع الشيء في موضعه تمامًا. والمُقارَبة هي: وَضْع الشيء في موضعه على جهةٍ تُقارِب الكمال. والتربية تحتاج إلى المُقارَبة؛ لأنَّ السَّدَاد فيها عزيز، فالتربية تساوي بناء الإنسان، وعملية بناء الإنسان ليست عمليةً رياضيةً لا تحتمل الخطأ -ولو بنسبة بسيطة-، بل هي عملية مَرِنة تحتمل الخطأ وتكتفي بالمُقارَبة وتطبيق الأغلب وليس الكل، كبقية العلوم الإنسانية التي استحال تطبيقها بالتمام.

 

اعتبار نَسَب الخطأ:

الإنسان قد يَتحمَّل التكلُّف والتجمُّل في طَبْعه لفترة قصيرة من الوقت، لكن من الصعب -إن لم يكن مستحيلًا- أن يظل مُتكلِّفًا طِيلَة حياته بطباع غير التي تعوَّدها، ولا سِيَّما إن تَعرَّض لضغطٍ عصبيٍّ أفقده ذلك التحكُّم، والنَّفْس تَتُوق إلى عدم الخروج عن إطار الراحة والعادة؛ إذ إن "الطَّبْع يَغلِب التطبُّع".

التربية جهد كبير وشاق، يحتاج إلى مُجاهَدة النَّفْس والخروج بها عن دائرة التصرفات المريحة إلى دائرة التكلُّف وحَمْل النَّفْس على ما لا تحب؛ ككظم الغيظ، ومحاولة الثبات الانفعالي أمام التصرفات الخاطئة، والتصرف بتُؤَدَة مع الأخطاء، وهو ما يصعب استمراره طِيلَة الحياة مع تقلُّب المواقف والظروف والنَّفْسية، ولا سِيَّما أننا لا نختلط بأولادنا بعض الوقت، ولا مرات معدودة من السَّنَة، بل إننا نحيا معهم بشكل دائم، ومن المُحتمَل أن يفقد أحد الوالدَيْن أعصابه خلال عملية التوجيه، فيَخرُج عن سياق التربية الإيجابية بالسِّبَاب (غير الفاحش) أو التعنيف (غير المُبَرِّح).

كثير من الآباء أو الأمهات قد يتَعرَّض لظروفٍ حياتيةٍ صعبةٍ؛ كضغطٍ في العمل، أو ظرفٍ مَرَضِيٍّ، هذه الظروف تجعل تحمُّل ضغط الأولاد العصبي مُستحيلًا، أو تجعل ردود الأفعال ذات شَطَطٍ كبيرٍ ومُنافيةٍ لنصائح التربية الإيجابية، وهذا مما يزيد نِسَب الخطأ في التطبيق لدى الوالدَيْن.

يجب ألاَّ يقلق الوالدان مع تلك التصرفات الخاطئة التي تشوب عملية التربية؛ لأن التربية عملية مُستدامة يتم تقييمها بشكل إجمالي وليس بالقطعة أو التصرف الواحد، ولا سِيَّما أن كل عوامل العملية مُتغيِّرة بدايةً من الظروف المحيطة إلى عَيِّنة التجربة نفسها (الإنسان) سواء المُمارِس للعملية أو المُمارَس عليه.

 

لكُلِّ فِعْلٍ رَدُّ فِعْلٍ:

لكُلِّ فِعْلٍ رَدُّ فِعْلٍ مُساوٍ له في القيمة ومُعاكِسٌ له في الاتجاه؛

أَحَد أَهَم وأَشْهَر قوانين "نيوتن" الفيزيائية، وهو قانون لا تقتصر تطبيقاته على الفيزياء فحسب، بل هو قاعدة مُعتبَرة في الأعراف البشرية والحياة أيضًا، والصَّدَمات الحياتية تُحْدِثُ بعدها -غالبًا- رُدُودَ أفعالٍ عنيفةٍ وبعيدةٍ عن التوسُّط والاتزان .ومن تلك الصور البعيدة عن الاتزان من بعض مُوَجِّهِي التربية الإيجابية تَركُ التعنيف والضرب بالكلية، كَرَدِّ فَعْلٍ عنيفٍ على اعتماد وسائلِ التربيةِ التقليديةِ عليهما، فهو كَمَن أرادَ حَلَّ المشكلة فزادها تعقيدًا؛ فينطبق عليه المثل: "زاد الطِّينَ بِلَّة".

أغلب الأبحاث التربوية حذَّرَتْ من "المبالغة" في التعنيف والضرب، وليس الضرب بذاته؛ إذ إن الضرب وسيلة فَعَّالة بعد استنفاذ كل الوسائل، والأبناء يتفاوتون في طُرُق الإرشاد، ومنهم مَن لا يَنْصَلِح حاله إلا عند آخر مرحلة؛ كما قال ابن رشيق القيرواني:

في النَّاسِ مَنْ لا يُرْتَجَى نَفْعُهُ .. إِلَّا إِذا مُسَّ بِأَضْرارِ

كَالْعُودِ لا يُطْمَعُ في طِيبِهِ .. إلَّا إِذا أُحْرِقَ بِالنَّارِ

فالأبحاث التربوية لم تُلْغِ عقوبةَ الضربِ، ولكن حذَّرَت من التمادي فيه، أو تحوُّل الوسيلة إلى أداة انتقام أو عنف ضد الابن؛ مما يورث له عاهةً بدنيةً أو نفسيةً.

حتى على مستوى الشرع هو أمر مباح؛ فقد أجازه النبي -عليه الصلاة والسلام-: «مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ»، وقد ضُبِطَتْ تلك العقوبةُ من النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- بعِدَّة ضوابط؛ كألَّا يكون الضرب في الأماكن المُؤذِيَة كالرأس والوجه والصدر والبطن، كما يكون الضرب في المرات الأولى من العقوبة غيرَ شديدٍ وغيرَ مُؤلِم، وغيرها من الآداب التي جاءت في السُّنة المُطهَّرة والتي لا يَتَّسِع المقام لذِكْرها كلها.

فبالرغم من أن التربية الإيجابية قائمة على الإقناع والتفاوض إلى آخر تلك الأساليب الحديثة؛ فإنها ليست مُسَوِّغًا لإلغاء وسيلة ناجعة (بالضوابط) في التأديب على مر العصور بدلائل علمية وشرعية.

 

التجارة بالمصطلح:

على غِرار ما حَدَث مع "التنمية البشرية" من تحوُّلها من عِلْم إلى تجارة؛ فتم تشوُّه المصطلح واغتياله على يد التجار؛ بدأ الكثيرُ يَشْتَغِل بمصطلح "التربية الإيجابية والاستشارات الأسرية"؛ مما سيُعَرِّضها للاغتيال قريبًا كما تَعرَّضَت قرينتها "التنمية البشرية" من قبل.

إشكالية التجارة بتلك المصطلحات أنها تفرض على المُدَرِّب أو المُوَجِّه أن يُقدِّم جديدًا في كل محاضرة أو كتاب، والجديد يحتاج إلى عنصر الإبهار، والإبهار يستدعي الإتيان بمعلومات جديدة قد تكون غير مهمة، وكل ذلك يُمثِّل أحمالًا فوق ظهورهم ورءوسهم؛ مما يزيد الإحباط لدى الوالدَيْن والشعور بعدم الرضا عن أنفسهم، وهذا كله قد يقود في النهاية إلى ترك العمل بالتربية الإيجابية كليًّا.

إن تضخيم الأمور والإكثار من الدقائق غير المهمة على الوالدَيْن؛ هو عملية تنفيرمن مصطلح "التربية الإيجابية" نَبَعَت من تسليع المصطلح والتجارة به والسعي إلى تحقيق الربح بغض النظر عن المآلات!

 

وأخيرًا؛ هذه ليست دعوةً لترك التربية الإيجابية أو دعوةً للعنف والقسوة مع الأبناء؛ وإنما هي دعوةٌ للمُوَجِّهين التربويِّين بالتَّرَؤُّف مع الوالدَيْن، وضبط ميزان الطرح، ومراعاة ضغط العملية التربوية عليهما، كما أنها دعوةٌ للوالدَيْن أنفسهما بعد الاستسلام أو الإحباط من التربية الإيجابية، حتى لو سَقَط منهما الكثير من التوجيهات، أو صَدَر منهما الكثير من المخالفات؛ إذ إن العلمية التربوية مستمرة ولا تتوقف عند أخطاء معينة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.