شعار قسم مدونات

زهرة أغسطس تحترق

جمال بن إسماعيل (مواقع التواصل الاجتماعي)

مغيب شمس يختفي بهدوء، فيقترب مني ظل التفكير فأجدني أمام أسئلة متكررة وأمور مضت تحتاج إلى التحليل، كلما تذكرت أن هناك من غادر هذا العالم ظلما وتعسفا، مثل ذلك الشاب الذي امتدت يد الغدر إليه وفجعت فيه أمة بأكملها، شاب بريء يحب الرسم والطبيعة، إنه جمال بن إسماعيل الذي تطوع لإخماد الحرائق فاستقبلوه بالظلم والتنكيل.

أصبحنا نعيش في عالم يصنع من الظلم نكهات مختلفة، بل عالم يلبس تاج الظلم مرصعا بجواهر الانتصارات الوهمية، عالم لا عدل ولا مساواة فيه، لا أمان ولا إنسانية تكسوه. فلا تصدق من قال لك "الدنيا أمان"، لأننا نعيش وسط وحوش آدمية على هيئة ملائكة، التي أصبح البعد عن استبدادياتها غير المنتهية حلما، فنحن في زمن لا نعرف بأي مكان يختبئ السيئون، فالجميع يتباهى بالمثالية حتى القاتل أصبح يمشي في جنازة قتيله، وكأن هذه الحياة حفل تنكري ضخم لا يمكن أن نميز الوجوه الحقيقية خلف تلك الأقنعة الجهنمية.

دقت الدقة الأخيرة فنظرت للساعة وجدتها منتصف الليل، حان وقت التفكير، وقت السهر داخل عقلي، حوار مع نفسي دام لساعات، حيث تفر الكلمات المتراكمة في كتلة محشوة في رأسي كلما لمحت هذا الظلم الشرس. أليس مؤسفا أن ينام الوطن كله على فراش اللامبالاة، إلا بطلا واحد يدخل حربا بجدارة ليعلن السلام داخل الوطن دون علمه أنه سيخرج أسيرا بها، بل مغدورا في وسط وحوش جهنمية. يبدو أن العالم عبر تاريخه قد نكب جماعات ومنظمات شيطانية ارتكبت كل الجرائم في حق الإنسانية.

حزم أمتعته بخطوات ثابتة وجبين شامخ من مكان دافئ، وذهب في رحلة إلى عالم يغطيه الرماد، كان مسلحا بالشجاعة ليطفئ النيران التي غطت ذلك الوطن اليتيم، وطن تعوي الأجساد الجائعة فيه مثلما تعوي الذئاب. وها قد أطفئ نيران الوطن الذي بكت غاباته ظلما، ولم تبق سوى نيران أحبابه تشتعل لفراقه.

رحل وهو لا يعلم ما ذنبه وما خطيئته المرتكبة، غادر هذا العالم بصرخات عالية وأحلام متزاحمة، لم يستقبلوه بالحياة التي رسمها بداخله بل ربطوه بخيوط الظلم وحمّلوه ما لا يحمل، جعلوا الحياة في نظره ظالمة في آخر دقائق عمره، بينما كان يمضي حياته بفكرة أن القادم الأجمل.

 

 

امتص روحه كل السواد والحرائق التي سادت الوطن، ثم توقفت أنفاسه دون علمه أنه قدم للوطن الأمان وأطفأ نار الفتنة وراح بقلب لا يعلم خزائنه إلا الله. لا أحد يعلم عن مرارة القهر التي تجرعها قبل رحيله، صوت صارخ ولكن ليس له سامع، فلو اقتربتم لأيسر صدره وأنصتم جيدا لنبضاته التي تحدثكم عن آلامه النازفة لتراجعتم خوفا من غضب الله.

كان كطفل منهك، صامد ينظر بصمت والعاصفة في داخله، لو مرت خارج جسده لدمرت كل الغربان التي كانت تحوم عليه. رموه بنظرة قاسية بل مسمومة بالحقد جمدت الدماء في عروقه، ورغم كل ذلك واصلوا في قذفه وإقناعه بأنه المذنب وغيرها من الأكاذيب الرهيبة التي تم الترويج لها لأهداف شيطانية.

وماذا عن تلك الأم التي طلبت منه عدم الذهاب لكنه أصر بأن لديه أحباب هناك، يريد مساعدتهم في إخماد الحرائق. وها قد حل السواد عينيها كغيمة مقهورة لا يسمع رعدها أحد، أصبحت بعيون بائسة وبجسد هش الذي تآكل من مرارة الفقدان وبضجيج الرأس الذي لا يهدأ، أصبحت داخلها حرب طاحنة غارقة وحدها في مأساتها، تزور حزنها كل ليلة حين يعم الظلام وتحاول تنشيف كل أمواج بكائها وتحتضر تفاصيل ابنها المحفورة بصخرة قلبها، لا تزال تذكر آخر معزوفة له بصوته الذي اختلس خفية وعن أجمل لوحة فنية رأتها، وهي صورته التي كانت تتهيأ للرحيل، فكيف لها أن تفرغ بعضا من أكوام الحزن المتراكمة في أعماقها.

رحل فخيمت غمامة ضبابية كثيفة على المدينة وهي غيمة صراخ المظلوم. رحل كزهرة احترقت بغير ذنب، أطعمت النحل ونشرت عطرا وكانت ملجأ للفراشات وزادت للغابة رونقا وجمالا ورغم ذلك أحرقوها ظلما، تماما مثل هذا البطل الذي أطعم العالم بالخير ونثر عطر حبه للوطن، ذلك البطل الذي حاصره أعداء الغير، هؤلاء الذين جعلوا من الظلم عنوانا.

وها قد ناولني التعب فآويت إلى فراشي، وبقيت أتأمل رمادية الأيام الكئيبة، فنمت ليلتها كما لم أنم في أية ليلة، بعد كل الحوار مع ذاتي الذي خرجت منه بنقطة واحدة وهي الهروب من هذا الواقع، لتشكل حاجزا يحجب عنك عالما أصبحت مضاره أكثر من منافعه.

دقت الدقة الأخيرة من أغسطس الذي اشتعلت فيه نيران جهنمية وها قد دخل الخريف فصل الأوراق والألوان فصل الأقحوان والصنوان، فيه ترتاح الروح على غرار باقي الفصول، ربما لأنه فصل بريحه ينثر كل شر ألوانه ليست بالجميلة مثل ألوان الربيع وتربته ليست بالحية مثل تربة الشتاء وسماؤه ليست بالصافية مثل سماء الصيف؛ إلا أنه أكثر الفصول التي تشعر الفرد بالراحة وتحرك غرائزه وحنينه للغائبين. وستهاجر أرواحنا إلى السماء يوما ما، مثلما تهاجر الطيور في الخريف أوكارها وسنترك الأرض والوطن. ورغم ذلك تجد أفعال البعض تساق بناء على رغباتهم الأنانية ونزواتهم الشيطانية فتتخذ سبيل الأذية والإساءة. وفي نهاية المطاف كان هذا البطل رمزا لزرع الأمل وسط الخراب، وعائلته رمزا للتسامي على الجراح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.