شعار قسم مدونات

قراءة مختلفة.. "انتفاضة" يناير 2011

ميدان - ميدان التحرير
ميدان التحرير (رويترز)

بدأتُ الكتابة في هذا الموضوع، قبل 4 أعوام، في محاولة مني لفهم هذا الحدث الكبير، بعدما تبدّد حلم المصريين بالعيش الكريم، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، ووجدوا أنفسهم "مغروزين" حتى آذانهم في واقع أحلك سوادًا وأشد تنكيلا مما عاشوه أيام مبارك، منذ الثالث من يوليو/تموز 2013، حتى كتابة هذه السطور، وإلى أن يشاء الله.

وقد يسأل سائل مستنكرا:

لماذا انتفاضة وليست ثورة؟!

سؤال مشروع ومنطقي ومقبول، لأن من يسألون هذا السؤال (وهم ملايين وكنتُ منهم) أُشرِبوا في قلوبهم، في سِنِي التعليم الأولى، أن حدثا كهذا ليس له اسم أو وصف سوى "الثورة"! هذا التصور "العاطفي" للثورة كان في مقدمة الدوافع التي دفعتني إلى تحرير مصطلح "الثورة" في سلسلة مقالات حملت عنوان "ما هي الثورة؟" تحريرا للمصطلح، كي لا نظل نجري في المكان، ومنها أقتبس ما يأتي:

"إن الصورة (المحمودة) الراسخة في أذهاننا ووجداننا لكلمة "الثورة" تعود، في تقديري، إلى ارتباطها، في اللاوعي لدينا، بالخروج على أنظمة استبدادية شمولية، اضطهدت شعوبَها على مرّ حقب طويلة.. ومن ثم، فقد اكتسبت كلمة (الثورة) وقعها الحسن في نفوسنا المعذَّبة، التوّاقة إلى الحرية بالفطرة، وربما لهذا السبب حرص كُتّاب التاريخ في بلادنا على استعمال كلمة (الثورة) لوصف تلك الأحداث التي ترتب عليها تغييرات مهمة، أثّرت بصورة أو بأخرى في حاضر البلاد ومستقبلها، كي يبعثوا شعورا بالفخر في نفوس النشء تجاه أجدادهم، سرعان ما يتبخر إذا ما تعرض لشمس الحقيقة، وحرارة الموضوعية".

 

 

نعم.. يصحّ "لغويا" وصف كل حدث كبير من الأحداث الكبرى التي شهدتها مصر، في القرنين الأخيرين بـ"الثورة"، أما "اصطلاحا" فلا يمكن تسميتها "ثورة".. فالبون شاسع بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للكلمة.. فالثورة (بعد دراسة تعريفاتها الاصطلاحية الكثيرة) يمكنني القول إنها "كل تغيير جذري يخلق واقعا جديدا مختلفا عن سابقه، في أي مجال من المجالات: العلوم، السياسة، الفن، الصناعة، الزراعة.. إلخ".. فإذا لم يقع التغيير الجذري، وينشأ واقع جديد مختلف عن سابقه فنحن أمام شيء آخر غير الثورة.. لذا، هي "انتفاضة" وليست "ثورة".

وحسب هذا التعريف، لا توجد ثورة شعبية فاشلة! فالثورة تعني (بالضرورة) أن الشعب قد "نجح" في إسقاط النظام الذي ثار ضده، وأن قادة هذه الثورة قد "نجحوا" في إقامة نظام جديد، على النقيض من النظام السابق، بغض النظر، عما إذا كان النظام الجديد محمودا أو مذموما، ناجحا أو فاشلا.. ومن ثم، فإننا (دائما) أمام "ثورة محمودة" أو "ثورة مذمومة"، وليس ثورة ناجحة وأخرى فاشلة! ولا ثورة في غياب الشعب.. وهنا أودّ التنبيه إلى أن اللجوء إلى القوة للإطاحة بنظام منتخب يُعدّ "خيانة عظمى"، وليس ثورة، فالنظام المنتخب لا يرحل إلا بصندوق التصويت، وليس بأي وسيلة أخرى.

وأما وصف الثورة بـ"المحمودة" أو "المذمومة، فذلك يعود إلى دوافعها ونتائجها.. ومن خلال دراستي الموضوعية للثورات الثلاث الأشهر (الفرنسية، الروسية، الإيرانية) وجدت أن الثورة "المحمودة" لدوافعها هي الثورة الفرنسية، بَيْد أنها تشترك مع الثورتين الأخريين في كون الثلاث "مذمومة"، بالنظر إلى نتائجها ومآلاتها، أما "الثورة المحمودة" لدوافعها ونتائجها فلم تقع بعد، وهذه هي الثورة التي نريد.

في الموضوع

إذا قيل لي: صِف انتفاضة يناير 2011 بأقصر عبارة، سأقول:

انتفاضة شعبية غير مسبوقة ضد مبارك الأب، دعا إليها مجاهيل، ووظّفها العسكر لوأد حلم مبارك الابن، والاستيلاء على السلطة، وتمرير صفقة القرن.

هذه الخلاصة التي انتهيت إليها بلغت (عندي) مرتبة اليقين، ولا يمكن أن يتكون اليقين بالحدس والتخمين، وإنما بالبحث الموضوعي الرصين، والبحث يبدأ من حيث يجب أن تبحث، لا من حيث تريد أن تبحث.

والبداية كانت من صفحة "كلنا خالد سعيد" على الفيس بوك.. وقد صُدمتُ حين بحثت عنها (أثناء إعداد هذه المقالة للنشر) لنسخ عنوانها، فلم أجدها! وهذا يعني أن وائل غنيم (وهو آخر من استخدمها) قد محا هذه الصفحة من الوجود، أو بالأحرى محا جزءا مهمًّا من تاريخ مصر، عن سابق قصد وتصميم!

لا يختلف اثنان على أن صفحة "كلنا خالد سعيد" هي التي مهدت لهذه الانتفاضة، ودعت إليها، وحشدت لها، فعيَّنت مناسبتها، وتاريخها، وساعتها، بل حددت نقاط التجمع، وخطوط سير المنتفضين، يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011م!

وتلبية لدعوة هذه الصفحة، خرج عشرات الآلاف إلى شوارع مصر، ظهر يوم الثلاثاء 25 يناير/كانون الثاني 2011م، وخلال 18 يوما أصبح العدد مليونيا، قام (بكل تفانٍ وإخلاصٍ) من دون اتفاق، بهذه الانتفاضة التي كانت عظيمة بحق، ارتقى خلالها ما يناهز ألفي شهيد، وحصد ثمارها العسكر دون سواهم، أما الذين صنعوها فتوزعوا على القبور، والسجون، والمنافي..

منهج البحث

بدأت بطرح الأسئلة، وكانت على النحو الآتي:

  • لماذا خالد سعيد تحديدا، وليس أي شاب آخر، رغم كثرة الشباب الذين لقوا مصير خالد، تحت التعذيب في أقبية أمن الدولة، السيئة الصيت، مثل سيد بلال ابن الإسكندرية، وليس في مقهى إنترنت، كما في حالة خالد؟!
  • هل أدار الصفحة وحرر منشوراتها "ناشطون" متعاطفون مع خالد سعيد لأي سبب من الأسباب؟ أم إن الصفحة كانت تُدار وفق رؤية ومنهج؟ وإذا كانت الثانية فما الرؤية؟ وما المنهج؟ وما المؤشرات الدالّة على ذلك؟
  • هل كانت الصفحة عملا "عفويا" صدر عن مجموعة من الشباب، أحبوا بلدهم، مصر، وحاولوا استنهاض الشعب المصري، ليساعدهم على الوصول بمصر إلى حال أفضل؟ أم إن الأمر سار وفق "خطة" مرسومة بدقة، لتحقيق جملة من النتائج "الكارثية" التي نراها (اليوم) رأي العين، ولا يمكن إنكارها، بأي حال؟!

رحلة البحث

كانت المفاجأة الأولى، عند زيارتي لصفحة "كلنا خالد سعيد"، في 2018، أن آخر منشور كان بتاريخ الثالث من يوليو/تموز 2013، ولم يكن سوى نص بيان انقلاب القوات المسلحة على الشرعية الدستورية، وإرادة الشعب.. هذا الشعب الذي ساقته هذه الصفحة إلى الخروج في 25 يناير/كانون الثاني 2011 م، لانتزاع الحرية، وإقامة "الدولة المدنية"! وإعادة "حق" خالد سعيد!

وهذا يعني (بكل بساطة ومن دون عناء تفكير) أن مهمة الصفحة قد انتهت بنشر بيان الانقلاب على الرئيس المنتخب! حيث لا يمكن التمادي أكثر من ذلك، ولا يمكن نشر حرف بعد ذلك، لأن الصفحة ستصبح أمام خيارات ثلاثة هي:

  • تأييد الانقلاب العسكري على إرادة الشعب، والرئيس المنتخب، وهذا يعني "كشف الخطة" برمّتها، ولك أن تتخيل (عندئذ) رد فعل 3 ملايين ونصف المليون المتابعين للصفحة!
  • مناهضة الانقلاب، وهذا من رابع المستحيلات.. إذ إن الصفحة ما وُجدت (في تقديري) إلا لتمكين العسكر من الاستحواذ على السلطة، بقطع الطريق على جمال مبارك.. ومن ثم، كان نص بيان الانقلاب العسكري آخر منشور لها! كأنها تقول للمصريين بلسان الحال "شكرا لحسن تعاونكم.. خطتنا نجحت، ولا عزاء لكم"!
  • إيقاف نشاط الصفحة، لتبقى "ذكرى جميلة" يمكن استدعاؤها، إذا لزم الأمر، ولكي تمنح الشباب المصري فرصة البحث عن تفسير لإيقاف نشاط الصفحة! وهذا (لعمري) سقوط من العيار الثقيل! إذ تعامل مشرفو الصفحة مع 3 ملايين ونصف المليون إنسان كما لو كانوا "أوراق تواليت" مستعملة، مكانها سلة المهملات، من دون كلمة وداع أو شكر!

وكان الاختيار الثالث الاختيار المثالي، وهو ما كان.. فقد توقف نشاط الصفحة سنوات، حتى أعاد وائل غنيم النشر فيها، فور ظهوره غير المبرر، بعد غياب طويل، في عام 2019، لمناكفة المقاول الفنان محمد علي، في محاولة مستميتة لفض الشباب عنه!

(يُتبع)..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.