شعار قسم مدونات

كلنا.. ولا أحد

مدونات - تشارلز بوكوفسكي
الحياة لا معنى لها إن كنا نعرف ما سيحدث (مواقع التواصل الاجتماعي)

فتح عينيه أخيرًا بعد أن فشلت كل محاولاته للعودة إلى النوم. أخذ علبة السجائر التي كانت بجانب رأسه، "التدخين يحرق أعضاء الجسد ويسبب السرطان والأمراض القلبية". كان يكره طعمها ورائحتها ولم يجد سببا حقيقيا وراء تدخينه هذا العفن، وفي كل مرة يُسكِتُ نفسه بذاتِ الجواب: الإنسان سيفعل أي شيء من أجل أن يشعرَ بشيءٍ ما.

نفث الدخان، تسارعت دقات قلبه وشعر بالدوار. ضرب رأسه بيده يطالبه بالسكوت مع أن الألم كان في صدره، لكن شيئًا ما أخبره أن رأسه هو السبب.

تذكر أنه قد يجد حبوب زكامٍ في أحد الأدراج فالحبوب المنومة لم تعد تأثر فيه، بحثَ بلا جدوى، مدّ ذراعه تحت السرير في محاولةٍ يائسة، لا شيء.

جلس مُحتارًا في ما سيفعله، هكذا قرأ مرة: افعل أي شيء لتبق مشغولًا.

لم تكن الوحدة ما يخافُه، فقد كان وحيدًا طوال حياته تقريبًا -على حد ما يذكر- لكنه يهلع لفكرة أن يبقى وحيدًا مع أفكاره، لا شيء يمكنه إيذاؤه كما تفعل.

يعرف أن باستطاعته فعل كلّ شيء في المدينة الكبيرة التي يعيش فيها، لكنه يعرف أيضًا أنّ لا شيء سيغير ما يشعر به. ذلك الخواء الداخلي لا ينفكّ يبارحه. أحس أنّه في سجن كبير ذي جدران ضخمة لا يراها غيره. وحتى لو امتلك كل العالم، فما الفائدة؟ سيكبُر سجنه فقط. "عندما لا يوقظك أحد في الصباح، وعندما لا ينتظرك أحد في الليل، وعندما يمكنك فعل ما تريد.. ماذا تسمي هذا؟ حرية أم وحدة؟"
شعر بأنّه قريبٌ إلى بوكوفسكي الذي يفهمه الآن.

كان يعرف كيف سيؤول إليه يومُه قبل أن يبدأ حتى. ينهض، يستحم وينظف أسنانه، يرى وجهه في المرآة متفقّدًا ابتسامته، وإن بدت له غير زائفة يتمتم: سيصدقونها. يشيح وجهه ليتفادى رؤية المزيد. يتوضأ ويصلي، يفعل شتّى الأمور بغية البقاء مشغولًا، ينام ويعيد نفس اليوم مرة أخرى.

هل لو قُدِّر للإنسان معرفة مستقبله لقتل نفسه في أول فرصة؟ لا أحد يمكنه تحمل ذلك.. الحياة لا معنى لها إن كنا نعرف ما سيحدث.

قرر أخيرًا أن يزور أصدقاءه ويبقى هناك إلى أن يشعر بالنعاس. ركب في آخر مقعد من الحافلة بجانب النافذة. لا يريد لأحد أن يزعجه، وضع السماعات في أذنيه لكنه لم يستمع لأي شيء. لم يعد يستمتع بالموسيقى، لا يذكر متى صارت مجرد ضوضاء في أذنيه، حتى أنه يفضل أصوات السيارات وفوضى الشوارع. كان ينسى الوقت متخيّلًا حياةَ كلّ أولئك الذين يمرّون عليه ويمرّ عليهم، أشعره هذا بنوع من الاطمئنان والهدوء، كأنّ العالم كلّه صاخب بينما هو ساكنٌ لا يتحرّك.

تخطى السائق محطته لكنه لم يخبره، لم يرد لما يفعله أن ينتهي، أكمل حتى آخر محطة، أخبر السائق أنه سيعود معه وتعذّر بنسيانه لشيء ما.. لم يرد لذلك السائق الذي لن يراه بعد اليوم أن يعتقد أنه غريب أطوار.. تساءل لماذا؟

ظل ينظر إلى المارة ويتخيل شكلَ مشاكلهم ولون سعادتهم، كان يراهم أدمغةً مهدرة لا تستعمل إلا لطلب لقمة العيش وكيفية تحصيلها، أهم سعداء وراضون أم أنهم تعودوا على هذه الحياة واقتنعوا أنه لا يوجد أبعد من هذا؟.. لم يبقَ لهم سوى انتظار الموت.

إن سأل أحدهم إن كان راضيًا لردّ عليه أنّه يجب أن ترضى بما أعطاك الله، لكن ألم يخبرنا الله أيضًا أن نسعى؟
كان يبغضهم لا لسببٍ معيّن إلا لأنهم يشبهونه في كل شيء، يستيقظون ويفعلون نفس الأشياء ويعيدون تكرارها في اليوم الموالي، مثله تمامًا عالقون في هذه الحلقة اللا نهائية التي تُسمّى حياةً.. أراد أن يحررهم، ربما لأن ذلك يعني تحرير نفسه.

أيخاف الإنسان الموت لأنه ذاهبٌ إلى المجهول أم أن كل ما في الأمر أنّه متمسكٌ بأمل أن شيئًا ما سيتغير، يومًا ما ستتحسن الحياة ولا يريد أن يفوته ذلك.. ترى ألذلك نسجت خرافات عن مخلصين سينقذون العالم.. ألهذه الدرجة كرهنا الحياة حتى صاروا يوددونها إلينا غصبا، ابتسم "سبحان من خلق فينا غريزة البقاء".

من قبل، لم يرد أن يموت حتى يجد ذلك الهدف الأسمى المقدر له، حتى ينتزعه بيديه من هذه الحياة، أما الآن فأصبح يشك إن كان له غرض أصلًا.

فتح هاتفه ودخل أحد التطبيقات، قابله منشور أحدهم يسب فيه شخصًا خالفه في رأيٍ فقهي، دخل التعليقات ليجد آلاف الناس يشتمون ويوزعون بطاقات جهنم.. أناس يعتقدون أنهم أفضل وأسمى لأنهم يعتنقون ديانة أو حتى مذهبًا معين، عن أي تكاتف وتلاحم يتحدث هؤلاء؟

ما هذا الدين الذي أصبح مجرد سب وقذف وتكفير؟ لماذا صوروا للناس أن الله ذلك الإله الغاضب الذي يذيق أقصى أنواع العذاب لأتفه الأسباب؟ لماذا أقنعوهم أنهم يجب أن ينتظروا غضبه لا عدله.. عذابه لا رحمته.

أخبار عن استشهاد فلسطينيين على يد الاحتلال، أخرى عن عائلات أعياها الجوع والمرض في وطنه وسياسيون نهبوا ثروات البلد..

أقفل هاتفه غاضبًا وأعاد نظره إلى الشارع، تساءل إن كان العالم هكذا حقًّا أم أنّ خوارزمية ذلك التطبيق اللعين لا تُريه إلا ما يستفزّه.

انتبهَ لفتياتٍ كُنَّ ينظرن إليه وتذكر أنّ حتى هذه الكائنات العجيبة التي يلهث وراءها نوعُه لم تعد تثير اهتمامه.

وصل إلى أصدقائه أخيرًا وأمضى اليوم يُحاكي أحاديثهم ويضحك على أمور لم يفهمها وأخرى لم يسمعها حتى، أراد أن يشعر أنّه طبيعيٌّ ولو للحظة.

عاد إلى شقته، أطفأ الأنوار وجلس في الشرفة يراقب ويدخن سيجارة تلو الأخرى. تذكّر تلك الليلة التي شعر فيها فجأةً بسلامٍ داخلي وكان يستمتع بالأغنية التي يسمعها، تذكّر أنه أراد أن يخبر شعوره لكلّ من يمرُّ عليه ويسأله إن كان يشعر بنفس الشيء، فكَّر أن ذلك الشعور لا بد أن يكون ما يطلقون عليه السعادة.

كان يعرف أنّ الله في كل مكان بعلمه لكنّه نظرَ إلى السماء تحديدًا لأنه أحبَّ ذلك

ربّاه تعرف ما بي.. عبدُكَ لم يعد يحتمل فالطُف به

تذكر ذلك الحديث القدسي "إنّ رحمتي سبقت غضبي" اقشعرّ بدنه وابتسم.

أخذ حقيبةَ ظهرٍ وضعَ فيها بعض الملابسِ وخرج.. جلسَ في متنزهٍ يقع بجانب شقته وأخذَ يراقب الناس. لفت انتباهه طفلٌ صغير يحاول كتابة شيءٍ ما على التراب، بدا له أنّ الوغد الصغير يحاول كتابة اسمه، أمرٌ اعتادَ رؤيته ولم يفهم لماذا. لماذا نحاول نحتَ أسمائنا في كل مكان؟ تذكّر مشهدًا من فيلم كوكو "الأموات لا يموتون حتّى ينساهم الأحياء" هل نحنُ خائفون من أن نُنسى لهذا الحد؟

راقبَ الطائرات الورقية، أيريدُ الإنسان أن يحلّق عاليًا مثل الطائرات الورقية؟ أيريدُ أن يكون حرًّا؟ إن لم يكن لذلك فما الهدف من جعل ورقةٍ تطير؟ ظلَّ يراقبها حتى غلبه النعاس.

استيقظ وحيدًا في المتنزه، أخذ هاتفه واتصل بأمه: "آلو ماما سأسافر أرجو ألّا  تقلقي عليّ".

  • لماذا وإلى أين يا بني؟
  • لا أعرف لكنني لم أعد أشعر بشيء.. أنا أتحلل.. أموت ببطءٍ وأتحلّل يا أمي.. أريد أن أشعر بشيء.. أيّ شيء.

وافقت على غير عادتها ولأول مرةٍ في حياته شعر أنّ أمّه أحسّت به.

  • إلى اللقاء سأتصل بكِ لاحقًا.

شعر أن تلك الفجوة في صدرهِ قد ملأها شيءٌ ما، لم يشعر بمثل هذا الشعور منذ زمن بعيد. قبل اليوم كان يأخذ حقيبته ويُمضي وقته في المتنزه دون أن يقطع شوطًا أكبر من ذلك، لم يصل إلى هذا الحد من قبل.

ذهبَ إلى أقرب سفارةٍ إليه

  • لماذا تريد زيارة بلدنا؟

صمت قليلًا: لا أدري..

  • ماذا تعني؟
  • لا أدري إن كنت أهرب من نفسي أم أبحث عنها أم أنّ هناك شيئًا آخر.. أنا ضائعٌ كما ترى.

مهما يكن ما أبحثُ عنه، ربّما أجِدُه في بلدكم أو في مكانٍ آخر.. لا أعرف.

ابتسم الموظف وأخبره أنّه يعرف شعوره تمامًا ووافق على طلبه للفيزا.

اتجه إلى المطار، عامَله جميعُ الموظفين بلطف، الكل كان يبتسم، شعر بأنّهم سعداء من أجله.

جلس في مقعده على متن الطائرة، وضع سماعات الأذن وغطّ في نومٍ عميق.

  • أستاذ هل تسمعني؟
  • هل وصلنا؟

فتح عينيه بصعوبة ووضع يده فوق وجهه لتقيه ضوء الشمس الساطع، شخصٌ ما كان واقفًا فوقه يحاول إيقاظه. جلس ونظر حوله ليجد نفسه وحيدًا في المتنزه.
أعاد عليه السؤال: أستاذ هل أنت بخير؟

أحسّ بسائلٍ غريبٍ على وجهه، مسح بيده على وجنتهِ اليُمنى ونظرَ إليها، تأكّدَ أنّها دموعه. لم يبكِ منذ زمنٍ طويل، ليس لأنّه لم يُرِد بل لأنّه لم يستطع.
أجاب عاملَ النظافة أخيرًا: نعم أنا بخير.

وضع حقيبته على ظهره وغادر.

تظاهَرْ لتعيش، كن زائفًا لتبقى على قيد الحياة،

هذا ما كان يعرفه عندما استيقظ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.