شعار قسم مدونات

الجماعات الجهادية وتأثيرها على استقرار أفغانستان

الواقع يؤكد أن طالبان تسعى للحصول على القبول المجتمعي أكثر من القبول الدولي (الجزيرة)

تنتمي الجماعات الإسلامية في أفغانستان عموما إلى المذهب الحنفي الماتريدي، لكن عقب رحيل الاتحاد السوفياتي ومشاركة الكثير من المجاهدين العرب في التجربة الجهادية الأفغانية، تأثرت كثيراً تجربة الجماعات الإسلامية الأفغانية بالهوية السلفية، ولا شك أن طالبان واحدة من كبرى هذه الجماعات، باستثناء المليشيات المسلحة الشيعية التي تستمد قوتها وهويتها السياسية من حاضنتها العرقية.

لكن ما يميز طالبان عن غيرها من الجماعات السياسية الأفغانية هو سعيها الدائم لإظهار نفسها أكثر "أرثوذكسية" من الآخرين، وتمسكها بتطبيق حدود الفقه الإسلامي في سياق الوطن الأفغاني، وهو أمر جعل تجربتها السابقة في حكم أفغانستان أكثر صداماً مع محيطها عموماً، ومع المنظومة الغربية خصوصاً، لذلك في المرحلة الحالة وعقب نجاحها العسكري، أظهرت طالبان الكثير من الليونة في ما يتعلق بالتعاطي مع القضايا الفقهية، سواء في التعامل مع عمل النساء أو تطبيق أحكام الفقه الإسلامي والتعاطي مع غير المسلمين.

وبقدر ما يفسر هذا في سياق التنازلات السياسية التي قدمتها الحركة للحصول على القبول الدولي، إلا أن الواقع يؤكد أن طالبان تسعى للحصول على القبول المجتمعي أكثر من القبول الدولي، لأن التشدد في تطبيق أحكام الشريعة بصورة مفاجئة دون وجود حاضنة وعي اجتماعي يمكن الركون إليها، يجعل تنفيذ تلك الأحكام محاولة للتصادم مع المجتمع.

لذلك ما تقوم به الحركة يمكن تفسيره في سياق تحسين الخطاب الإعلامي لها، وتقديم صورة أكثر اعتدالاً عن صورتها السابقة أمام الأقليات العرقية في أفغانستان وأمام المجتمع الدولي. وبقدر ما يمكن تفسير ذلك في سياق سعيها للحصول على القبول، كذلك يمكن التأكيد على دور حلفاء طالبان الذين راهنوا عليها وساهموا في توقيع الاتفاق بينها وبين واشنطن -مثل قطر وباكستان- في اعتدال خطاب الحركة.

تأثر أداء الحركة السياسي بهويتها الدينية، وهو أمر لا شك ستكون له عواقبه، فأزمة طالبان الحقيقية لا تختلف كثيراً عن القاعدة أو شبكة حقاني أو تنظيم الدولة (داعش) أو غيرها من الجماعات الجهادية، وهي متمثلة في هيكلتها التنظيمية التي تم تأسيسها على أسس تتعلق بممارسة القتال والهدم أكثر من تطوير مواردها البشرية لإدارة عملية بناء الدولة أو الإسهام فيها، وهذا الخطأ تكرره أغلب الجماعات الجهادية ذات الأجندة السياسية. لذلك حينما بدأت طالبان تشكيل حكومتها، استعانت بكوادرها وقادة كتائبها المقاتلة، ولم تستعن بمهندسين أو رجال أعمال أو غيرهم من الطبقة المدنية في المجتمع الأفغاني.

وبالتزامن مع محاولاتها إقامة علاقة نفعية مع إيران بمقتضاها تحقق بعض المصالح الاقتصادية المتعلقة بالتجارة العابرة بين البلدين، فإن الحركة لم تتهاون مع عرقية الهزارة التي ينتمي أغلبها للمذهب الشيعي، وقد أفادت منظمة العفو الدولية بأن الحركة قتلت في يوليو/تموز الماضي 9 أشخاص، دون الإفصاح عن سبب إعدامهم.

التنظيم الآخر الأكثر تأثيراً في مستقبل أفغانستان بعد طالبان، هو تنظيم "داعش" في ولاية خراسان. ورغم هويته المعروفة على مستوى عالمي منذ عدة سنوات والشكوك الكثيرة التي حامت حول أسباب نشأته، فإن تجربته في أفغانستان ذات اهتمام كبير بسبب هيكلته التي يصعب تتبعها. فقد بدأ التنظيم يتمركز في نانجار شرق أفغانستان على الحدود مع باكستان، وقد بدأ نشاطه في عام 2015 عقب حملة الجيش الباكستاني على حركة طالبان باكستان في وزيرستان، واستطاع في غضون سنوات جذب العشرات من المتمردين على شبكة حقاني وحركة طالبان والقاعدة، وقد تعرض التنظيم لغارات شديدة من قبل سلاح الجو الأميركي، بالإضافة إلى عمليات عسكرية أفغانية ساهمت في إضعافه وتحويله إلى شبكة تربط عشرات الخلايا العنقودية، تتمركز في جلال آباد وكابل.

وتظهر الإحصاءات الرسمية الأفغانية أن التنظيم نفذ خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري 77 هجوماً في أفغانستان، وكان أكثرها دموية الهجوم الذي استهدف مطار كابل في 26 أغسطس/آب خلال الانسحاب الأميركي من البلاد، وقد قتل فيه 170 مدنيا أفغانيا و13 جنديا أميركيا، لذلك أظهرت عدة دول مجاورة لأفغانستان موافقتها على مساعدة طالبان لملاحقة التنظيم، لأن خطورته لا ترتبط بالجغرافيا الأفغانية فقط، وهو أمر يصبح في صالح الحركة سياسياً لاستخدام ورقته للتقارب مع جيرانها وتعزيز تعاونها الأمني معهم.

التحدي الآخر الذي قد يتحول إلى أزمة سياسية وعسكرية بالنسبة لطالبان، هو ضبط علاقتها مع حلفائها العسكريين مثل تنظيم القاعدة وشبكة حقاني. ورغم أن هذا التحالف وثّقته علاقة ممتدة لعدة أجيال خلال قتال السوفيات والقوات الأميركية، فإن الهيكلة التنظيمية تظهر بوضوح وجود نزعة انفصالية داخل هذا التحالف.

هناك حالة من الدمج بين طالبان وشبكة حقاني توّجها تعيين سراج الدين حقاني نائبا لزعيم حركة طالبان، إلا أن شبكة حقاني لا تزال تعمل بصورة تشغيلية منفصلة في منطقة تمركزها شرق أفغانستان، وهذا الأمر يؤكده التقسيم الجغرافي للنفوذ بين طالبان وشبكة حقاني. فوفقا لتقرير نشره موقع "فوي نيوز"، فإن أفغانستان مقسمة إدارياً لنطاقين: الأول في الجنوب وتديره حركة طالبان، والثاني في الجنوب الشرقي ويتكون من 20 مقاطعة وتديره شبكة حقاني، وكل هذا العمل المشترك يسيطر عليه مجلس قيادة مكوّن من 30 عضوا، يقودون لجانا مختلفة تدير شؤون البلاد في سياق تنظيمي، بعيدا عن مؤسسات الدولة.

أحد أبرز المؤثرين في سياسة طالبان تجاه الجماعات الإسلامية الأخرى هو الشيخ عبد الحكيم حقاني، وقد كانت له علاقة وطيدة مع زعماء طالبان، وكان من مؤسسي الحركة، وكان رئيسا للقضاء، وأصدر فتوى لقتال "داعش" جعلته هدفا للتنظيم، إذ تم تفجير مدرسته في بلوشستان باكستان، لكنه يعد حالياً كبير المفاوضين في الحركة وقد قاد هو المفاوضات مع الأميركيين في قطر.

ينظر لشبكة حقاني على أنها الخيط المتين الرابط بين طالبان الأفغانية وتنظيم القاعدة، ويجمع المجموعات الثلاث علاقة عدائية شرسة بتنظيم "داعش"، وأحد أهم أسباب ذلك هو محاولة "داعش" استدراج عناصر المجموعات الثلاث واستقطابهم ضمن صفوف التنظيم، كذلك تنفيذ عمليات عسكرية تستهدف مصالحهم، واختلاف الهوية السياسية.

عقب سيطرت حركة طالبان على كابل قامت بإعدام زعيم تنظيم "داعش" ضياء الحق، وهذا الأمر يبرره العداء المستفحل بين الطرفين، بينما يرى التنظيم أن "طالبان حركة قومية أفغانية ذات أجندة ضيقة"، ويسعى إلى توسيع نفوذه في وسط آسيا وتحقيق تطلعاته في إنشاء "خلافة عالمية".

التحدي الثالث أمام طالبان هو الحفاظ على علاقتها بتنظيم القاعدة مع التزامها بالاتفاق الذي وقعته مع الولايات المتحدة بشأن منع أي هجمات تمس الأمن القومي الأميركي انطلاقاً من أفغانستان، وهي عملية تستلزم حرمان القاعدة من أي مقر آمن تحت نفوذ الحركة.

ووفقاً لتقارير عن مسؤولي مكافحة "الإرهاب" في الأمم المتحدة، فإن طالبان قيدت حركة المقاتلين الأجانب المرتبطين في القاعدة داخل أفغانستان، لكنها لم تلتزم بالحد من عمليات القاعدة في شبه القارة الهندية، كذلك لم يؤثر كثيراً الاتفاق الأميركي على طبيعة العلاقة بين الطرفين، فهي تواصل توفير ملاذات آمنة لقادة القاعدة في جنوب وشرق أفغانستان وعلى طول الحدود مع باكستان، ويعتقد أن ذلك مقابل حصول الحركة على الأموال والتدريب على المهارات المتخصصة مثل صناعة القنابل.

فقد التزمت القاعدة طوال سنوات الاحتلال الأميركي لأفغانستان بالقتال إلى جوار الحركة، وقد قامت طالبان بإطلاق سراح الآلاف من السجناء من سجون كابل فور سيطرتها على العاصمة الأفغانية، بما في ذلك عناصر من "القاعدة". لذلك يمكن التأكد من وجود مصالح ومهددات مشتركة تجمع الطرفين، لكن هذا لا ينفي إمكانية تحول تنظيم القاعدة إلى تهديد عالي المخاطر لاستقرار حكم طالبان، وهذا الأمر يقود إلى الحديث عن فصائل أقل قوة وتأثيرا في الملف الأمني الأفغاني، لكنها تعد إشكالية وعقبة أمام علاقة النظام السياسي الذي تسعى طالبان لتشكيله في أفغانستان مع دول الجوار.

وهنا يجري الحديث عن حركة أوزباكستان الإسلامية، وهي عبارة عن منظمة جهادية تأسست على يد محمد طاهر يولداشيف لقتال النظام الشيوعي في أوزباكستان، وبايعت الملا محمد عمر في عام 2015، لكنها جنحت إلى كفة تنظيم "داعش" بعد ذلك وتحولت إلى أزمة جديدة، مثلها مثل الحزب الإسلامي التركستاني الذي يتخذ من أفغانستان ملجأ له من الملاحقات الصينية، ويمتلك هناك آلاف المقاتلين.

لا شك أن مرونة طالبان التي ظهرت في التعاطي مع القاعدة قد تنعكس بصورة أو أخرى على باقي التنظيمات التي تتوقف عن مهاجمة المصالح الأميركية، لكن الأمر أيضاً يتعلق بالدول المجاورة لأفغانستان، لذلك يعتبر تنظيمُ "داعش"، الملا عبد الغني برادر عرابَ السياسة الطالبانية إزاء الجماعات الإسلامية المقاتلة على الأراضي الأفغانية، ولديه تنسيق عالي المستوى مع الإدارة الأميركية بهذا الصدد، ويعتبر من أكثر الشخصيات المستهدفة على مستوى طالبان من قبل "داعش".

وهذا الأمر يؤكد أن التنظيمات الجهادية ستتحول مع مرور الوقت إلى عقبة كبيرة أمام جهود طالبان في بسط الاستقرار، في حال فشلت في التوصل إلى تسوية معها، ولا سيما أنها سرعان ما تتحول إلى خلايا عنقودية يصعب اقتفاء أثرها، وهذا الأمر ينبئ بمعركة أفغانية داخلية طويلة الأمد، وقد يكون هذا الأمر أحد أفضل الوسائل التي اختارتها واشنطن بديلاً عن الاستمرار في وجودها بأفغانستان.

العقدة الأخيرة والأشد تأثيراً في خارطة أفغانستان الأمنية الداخلية، هي حركة "طالبان باكستان"، وقد أسلفنا بالحديث عنها كثيراً، لكننا لم نشر إلى أنها أزمة تتعلق بالجغرافيا والديمغرافيا أكثر بكثير من السياسة، فالحركة التي تعتبر الجيش الباكستاني عدوها الأول، ولها امتدادات عميقة داخل طالبان أفغانستان، تهيئ لكتابة تاريخ جديد من النزاع بين البلدين على ترسيم الحدود، وهذا الأمر يؤكد عليه الباحث الباكستاني برفيز هودبهوي:

شئنا أم أبينا، أصبحت أفباك حقيقة. هذا المصطلح المحتقر في باكستان بسبب أصله الأميركي، يبدو صحيحًا. هذا الأمر يزداد بالقرب الجغرافي والأيديولوجي بين حكام البلدين.

و"أفباك" هو مصطلح استخدمته الإدارة الأميركية للدلالة على تحول أفغانستان وباكستان إلى مسرح واحد للعمليات العسكرية في الحرب على "الإرهاب"، لذلك نحن أمام فصل جديد من فصول الصراع على الأراضي الأفغانية، قد ينشط بصورة كبيرة الهجمات التي تستهدف الشركات الصينية العاملة في إقليم بلوشستان الباكستاني، ويخلف واقعا أمنيا تنشطه الاضطرابات على الحدود بين البلدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.