شعار قسم مدونات

قراءة إستراتيجية.. في خطاب أمير قطر أكتوبر 2021

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني (الجزيرة)

رغم أن خطاب صاحب السمو أمير قطر في الاجتماع الأول لمجلس الشورى المنتخب وإلى الأمة القطرية يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021 خطاب محلي موجه للداخل، فإن دلالاته الإستراتيجية تأخذ بُعدا إقليميا ودوليا، نظرا لعدة أسباب:

  • لما تحتله قطر الآن من مكانة مرموقة إقليما ودوليا، فلا يكاد ملف من الملفات الإقليمية إلا ويمر عبر الدوحة، أو يكون للدوحة دور كبير فيه، ناهيك عن الملفات الدولية المهمة التي أصبحت لقطر أدوار رئيسية فيها.

بالإضافة إلى المؤهلات القطرية التي تمنحها أدوارا كبيرة في مستقبل المنطقة، كما أنها صاحبة مدرسة جديدة في سياستها الخارجية وصناعة المواءمة بين ثلاثية مصالحها الوطنية، ومبادئها الراسخة، وموازين القوى العالمية.

  • كما أن قطر قدمت مواجهة جديدة للحرب الهجينة التي مورست وتمارس ضدها، بشكل حضاري وراق جديد من أشكال مواجهة الحرب الهجينة بالدبلوماسية الهجينة الأنسب لقدراتها ومعطيات الواقع والأكثر فاعلية في تحقيق الأهداف.

ما الذي يحمله خطاب سمو الأمير في عمقه ودلالاته ورسائله الإستراتيجية حول ترسيخ المصالح الوطنية العليا لقطر وامتدادها الزمنى والجغرافي، وآثارها على مستقبل المنطقة؟

تمحور خطاب سمو الأمير في 4 محاور أساسية

  • استعراض أهم الإنجازات القطرية خلال الفترة الماضية.
  • تناول أهم التحديات الداخلية التي تواجه قطر.
  • التوجهات الأساسية للمرحلة المقبلة.
  • المبادئ والقيم الأساسية للسياسة الخارجية والداخلية القطرية.

نتناولها بالبحث في تفاصيلها وأبعادها ودلالاتها الإستراتيجية، وآثارها على توازن البنية الثقافية والسياسية والأمنية للمنطقة وحتمية تطور البنية الثقافة والهوية الوطنية للمجتمع. أظهر الخطاب رقيا وعلوا كبيرين في سقف التفكير والأداء والإنجاز للقيادة السياسية لقطر، وقدرتها البالغة على تحقيق نقلات نوعية متسارعة الخطى على مستوى البنى التحتية والفوقية في كافة مجالات الحياة الأساسية في قطر، بيد أنه يحتاج إلى تكاتف ومشاركة شعبية حقيقية، وأن يتحمل الشعب مسؤوليته الكاملة في نمو المجتمع والدولة، وأن يتجاوز الآثار السلبية للنمو والرفاهية التي يعيشها.

وقد طالب بذلك سمو الأمير في لفتة بالغة الحب والتقدير والاحترام لشعبه على منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما بال أقوام"، حين انتقل سريعا وبذكاء ولطف إلى تحديد ما يجب فعله عبر تأكيد عدد محدد من القيم التي يجب أن تشكل العمود الفقري للهوية القطرية خلال المرحلة المقبلة.

 

يمكن تحديد القيم في النقاط التسع الآتية:

  • المواطنة المتساوية كاملة الحقوق والواجبات.
  • الترفع عن العصبية البغيضة التي نهى عنها الإسلام، وحذرت منها الفلسفات والثقافات المختلفة، لآثارها الخطيرة على تدمير المجتمعات والأمم، وضرورة الوحدة والاحتشاد وتوجيه العصبية والانتماء والولاء للدولة وللمصالح العامة، لأن في ذلك تحقيق أفضل المصالح لجميع أبناء الوطن على المدى القريب والبعيد.
  • تحمل المسؤولية الفردية لأبناء الوطن، خاصة الأجيال الجديدة التي تلقت أعلى مستوى من التعليم في أفضل الجامعات العالمية، وكذلك ما بلغته جامعة قطر من نمو وتطور سريع -هي وخريجوها المتميزون- في بناء وتطوير الأسرة والمجتمع والمؤسسة والدولة.
  • التخفف النسبي المتدرج من ثقافة الاستهلاك والتحول إلى ثقافة الإنتاج.
  • إدراك قيمة النعمة الحالية وشكر الله تعالى عليها، بالمحافظة عليها وحسن استخدامها واستثمارها.
  • ترشيد وضبط الإنفاق على الضروريات والتحسينات والتوقف عن الكماليات التي تدفع البعض إلى استسهال الاستدانة.
  • الاهتمام بالقيم المعنوية والروحية، وتجنب الوقوع فريسة للاستغراق في طوفان المادية المهلكة للأسرة والمجتمعات والأمم.
  • الاعتماد على الذات وإطلاق الممكنات الخاصة، وترشيد الاتكال على الدولة في كل شيء.
  • تعزيز قيمة العمل الفاعل والإنتاج الحقيقي.

الدلالات والرسائل الإستراتيجية

  • هذه القيم التسع تحمل بعدا إستراتيجيا بالغ الأهمية لأنها ستصنع مواطنا ومجتمعا قطريا متوازنا روحيا وماديا، راشدا في إدارة ثرواته، والمحافظة على حق الأجيال التالية، مجتمعا جادا وقويا وعاملا ومنتجا، قادرا على استكمال مسيرة الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي لأمنه الغذائي والقومي بشكل عام والمحافظة على الوجود والتطور المستمر.

كما أنها سترتقي بالمجتمع القطري ابن البادية العربية إلى أعلى مصاف المجتمعات العالمية المتحضرة التي تعلي الانتماء إلى الوطن على كل الانتماءات القبلية والعرقية، التي وللأسف ترسم الملامح الأساسية لمشاكل وحروب المنطقة، والرسالة الإستراتيجية هنا هي: الإعلان عن تدشين مرحلة التحول الحضاري من مجتمع القبائل إلى مجتمع ودولة المواطنة والمؤسسية والقانون، وأنه لا مجال في قطر لموروثات العصبية والجاهلية القديمة، وعلى الجميع أن يعي ذلك ويتحمل مسؤوليته ويشارك الدولة الخطى السريعة نحو المستقبل، ولا مجال للعودة للخلف أبدا.

  • المواءمة بين السياسة الخارجية لقطر وما ترتكز عليه من منظومة قيمية حضارية جعلت من قطر محل احترام وتقدير بل وإبهار دول العالم، حتى أنها وبسياستها الناعمة وضعت خصومها في زاوية أخلاقية بالغة الضيق والحرج أمام أنفسهم وشعوبهم والعالم.

هذه السياسة التي تحمل أبعادا اقتصادية وأمنية وسياسية متوازنة في منطقة بالغة التعقيد في حساباتها الجيوإستراتيجية، التي تحتاج إلى بنية ثقافية حضارية بالغة التقدم، لتضمن المواءمة والتوازن بين الخطاب والسلوك والأداء الداخلي والخارجي من جهة، ولتمثل الثقافة والهوية القطرية الداخلية، بنية تأسيسية ورافعة اجتماعية وسياسية للسياسة الخارجية لقطر من جهة أخرى، خاصة أن السياسة الخارجية لقطر تمثل الآن العمود الفقري لإستراتيجيتها الأمنية والدفاعية ضد الأخطار والتهديدات التي تواجهها.

  • استكمال المؤسسات الثلاث للدولة التنفيذية والقضائية والتشريعية، وقرب إتمام البنى التحتية المادية والمعنوية للدولة الحديثة، وتخريج أجيال على أعلى مستويات التعليم في العالم، والدعوة لتعزيز التأهيل والتدريب والرقي بالقوة البشرية للمجتمع، والإصرار على التحول إلى اقتصاد المعرفة وغيره من الإنجازات المتتالية، وفتح المجال الواسع أمام القطاع الخاص.

كل ذلك يكشف نوايا القيادة السياسية للصعود بالدولة القطرية لمصاف الدول المتقدمة، مما يتطلب مزيدا من مشاركة المواطنين وتحملهم لمسؤوليتهم الفردية خلال الفترة المقبلة، وكأن سمو الأمير يكاد يطالب بسيل متدفق من المبدعين والمبادرات والإنجازات القطرية في شتى مجالات الحياة، وهذا ما يجب أن تفصح عنه السنوات المقبلة.

إصرار قطر على المضي في سياستها الخارجية الناجحة والفاعلة في تحقيق الأمن والأمان لها ولشعبها ولشعوب المنطقة، التي تحتاج إلى رافعة ثقافية وهوياتية وطنية داخلية تسهم في دفعها وثباتها ونموها وتطورها باستمرار، والرسالة الإستراتيجية هنا هي: ضرورة دمج وتعزيز القيم الحضارية للسياسة الخارجية القطرية المتمثلة في التسامح والانفتاح على العالم، والعدالة في العلاقات، والمصالح الدولية والمبادرة للإصلاح وتصفير المشاكل، وصناعة الاستقرار، والتفاهم الإستراتيجي مع الحلفاء الإقليميين والدوليين، على أن يدمج ويعزز كل هذا ويرسخ داخل الهوية الوطنية الراسخة للمجتمع القطري وتتحول إلى سلوك دائم وثقافة ونمط حياة للمجتمع القطري.

  • تطوير التشريعات الحالية لتعزيز المواطنة القطرية المتساوية، والتي تتطلب عمليات تخلية وتحلية في مفردات الثقافة الموروثة، والرسالة الإستراتيجية هنا هي توازي العمل التربوي والثقافي مع التشريعي، ليعزز وجود بيئة حاضنة وراعية لمجتمع مسالم بطبيعته ويحب الخير للجميع، فما بالك لأبناء وطنه.
  • التكامل الرأسي والأفقي والامتداد الطبيعي لنتائج تقويم أعمال الخطة الخمسية الثانية لتكون الأساس لإعداد الإستراتيجية الوطنية الثالثة وفق مقررات البناء التراكمي الإستراتيجي للخطط الخمسية كما أشار إليه سمو الأمير، وبيانا دقيقا لدور كل منها في تحقيق رؤية قطر2030 وفق ما مر منها والـ8 سنوات المتبقية لتحقيقها.

البعد الإقليمي الذى قدمته وتحرص عليه قطر هو صناعة نموذج حضاري جديد لدولة تواجه تحدي صغر المساحة وقلة السكان، بصناعة دولة نوعية حضارية حديثة تعاقدت مع ربها وشعبها، وتوافقت بحكمة مع النظام الدولي القائم لتحقيق أمنها وفرص تطورها، ولم تنجرف إلى الخيارات الأخرى، في حين تعاقد البعض مع الشيطان بكل ما يحمل ذلك من معان وخطايا للمحافظة على أمنه وتطوره على حساب دول الجوار.

وبذلك قدمت قطر رسالة إقليمية بالمسار الصحيح لرعاية مصالح الشعوب وأمنها القومي، كما قدمت صورة حضارية متميزة نالت إعجاب وإبهار العالم لعلها تزيل الصور الأخرى التي قدمتها بعض الدول في المنطقة، وأدت إلى تشويه صورة المنطقة والعرب.

  • لا شك أن استقرار قوة ونمو قطر لم يعد يمثلها فقط، إنما يمثل الخليج والمنطقة العربية، خاصة أن قطر شريك أساسي في كل ملفات المنطقة، كما أنها أصبحت بوابة وجسرا للعبور والتواصل لدول المنطقة مع القوى العالمية الكبرى، ومن ثم فقوة قطر هي قوة للعرب ولاستقرار المنطقة والعالم.

ما المطلوب من الشعب والوزارات؟

أولا: أعتقد أن سمو أمير قطر وضع الشعب أمام تحد كبير جدا بضرورة تجسير الفجوة بين ما تصبو إليه وتعمل له الدول، وما يجب أن يقوم به الشعب، وعلى الشعب -خاصة الشباب المبدعين- أن يقولوا كلمتهم ويقدموا إبداعاتهم وإنجازاتهم المتجددة حبا ووفاء ومسؤولية لوطنهم الواحد الكبير قطر.

ثانيا: المهمة كبيرة وثقيلة على مجلس الوزراء، خاصة وزارة الثقافة التي عليها مسؤولية وعبء كبير من توجهات المرحلة المقبلة والتي يجب أن تنعكس في الإستراتيجية الوطنية للخمس سنوات المقبلة والتي يجب أن تحمل الكثير من القيم الجديدة الإضافية التي أشار إليها سمو الأمير وضوحا وتكليفا، والتي يجب أن تترجم الى أدلة سلوكية تربوية ومهنية عملية جاهزة للتنفيذ في مشروعات تنفيذية مجتمعية متنوعة تشمل الأسرة والمدرسة والمؤسسة والنادي بشكل تطبيقي عملي، كما أشار إلى ذلك وأكده سمو الأمير، تتلقاها بقية وزارات الإنسان في قطر من وزارات التربية والتعليم والشؤون الاجتماعية والأوقاف والشباب والرياضة.

ثالثا: تحتاج قطر الآن إلى بنية تأسيسية حقيقية لإنتاج المعرفة المعاصرة المتخصصة في القيم والثقافة والهوية القطرية والقادرة على فهم وترجمة توجهات سمو الأمير وإنتاج المحتوى المعرفي المعاصر المتجدد اللازم للتطوير المستمر للثقافة والهوية القطرية، بضرورة تأسيس مركز احترافي متخصص لبحوث ودراسات القيم والهوية وإنتاج المعرفة الوطنية الخالصة، بعيدا عن المراكز التي تستند إلى نقل التجارب الغربية أو تنشغل بالترف الفكري البعيد كل البعد عن توجهات واحتياجات ومطالب الدولة، علما بأن الثقافة والهوية لا تترجم ولا تنتج إلا محليا -وعندما أتحدث محليا أي عربيا- أتحدث عن قطر قلب العروبة، خاصة أن قطر تمثل السبق والريادة في هذا المجال وبتقديمها النموذج الناجح لمشروع الهوية الوطنية، لا شك أنه سينسخ عربيا لبقية دول المنطقة ليعزز من ثقافتها العربية الواحدة.

بطبيعة الحال، في مجال القيم والهوية يتدرج العمل من الجهود الفكرية المنتجة للمعرفة التي يتلقاها المخطط التربوي والمهني لترجمتها لمشاريع في دولاب الدولة، ثم يقوم عليها التنفيذيون المتخصصون.

رابعا: تحتاج قطر إلى مشروع متكامل للهوية الوطنية القطرية وفق المعايير العالمية لصناعة الهويات الوطنية لدول العالم المتقدم يجمع بين ثلاثية القيم الأصيلة للمؤسسين والقيم العالمية القوية الحالية والقيم المستقبلية العابرة للمستقبل، بما يضمن التطور المستمر للهوية القطرية وانتقالها من مستوى الهوية المرنة إلى الهوية الصلبة القادرة على الانطلاق بقوة وثبات نحو المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.