شعار قسم مدونات

تونس تقاوم.. من أجل الربيع العربي

استماتة الشعب التونسي في الدفاع عن تجربته الفريدة شكّلت مصدر إزعاج لكلّ المتربصين (الجزيرة)

تعوّدت تونس دوما أن تكون مصدر إلهام لشعوب المنطقة التواقة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعيش في أوطان تحترم حقوق مواطنيها.

لم يتردد الشعب التونسي أواخر سنة 2010 في رسم ملحمة تاريخية ضدّ أعتى الدكتاتوريات التي شهدها العالم العربي، حيث خرج الشعب التونسي بمختلف أطيافه وتياراته رافعا شعارات الحرية والانعتاق من الظلم والقهر والجبروت، كاتبا بماء الذهب صفحات جديدة من الديمقراطية وحقوق الإنسان.

استمات التونسيون في الدفاع عن ثورتهم ومنعوا كلّ محاولات الارتداد إلى الوراء وآمنوا بضرورة التغيير عبر الانتخابات والصناديق كما تفعل الشعوب المتحضرة.

كانت استماتة التونسيين في الدفاع عن ثورتهم علامة فارقة أثارت إعجاب واستحسان كلّ المؤمنين بالحرية في كلّ أصقاع الأرض، بينما واجهها عبيد الاستبداد والجبروت بالرفض والاستهجان وسخّروا كلّ ما يملكون من أجل الإطاحة بتجربة ناشئة يقودها شعب متعلّم وحالم بوطن أفضل.

10 سنوات من المقاومة

لم يقبل الكثيرون ممّن استفادوا لعقود من الزمن من فتات الدكتاتورية بالواقع الجديد الذي رسمه الشعب التونسي، حيث انطلقت المؤامرات والتكتيكات الداخلية منذ الأيام الأولى من الثورة لإسقاط ذلك المشروع الحالم.

وأصبح التونسيون يواجهون الثورة المضادة التي اختفت تحت مظلة الدولة العميقة التي انطلقت في عزف سمفونيّتها الرخيصة طامعة من خلالها في إشاعة الندم والخوف لدى التونسيين وإقناعهم بالعودة إلى الوراء، معوّلة في ذلك على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها كلّ الأوطان بعد ثوراتها.

لم يواجه الشعب أيادي داخلية فحسب، إنّما كان لبعض دول المنطقة الرافضة للمشروع التحرري الذي قادته ثورات الربيع العربي عداء مباشر ومفضوح حيث استعملت كل الأساليب لإسقاط الثورات في مصر واليمن وليبيا والاشتغال بكلّ الوسائل المتاحة لخنق الثورة ووأدها في تونس.

شكّلت استماتة الشعب التونسي في الدفاع عن تجربته الفريدة مصدر إزعاج لكلّ المتربصين بها، ممّا جعلهم يستعملون كلّ الأدوات الممكنة قصد ترذيل الثورة والتندّر بقياداتها عبر ضخّ الأموال الطائلة من أجل تأجيج بعض التحرّكات واستعمال سلاح الإعلام وتسخير قنوات إعلامية بإمكانيات ضخمة هدفها استهداف الثورة ومؤسساتها الجديدة وتخويف الشعوب من رياح التغيير.

يمكننا القول إن الشعب العربي الوحيد الذي استعصى على أجندات الخراب العربي هو الشعب التونسي الذي رفض كلّ المحاولات اليائسة لمدة 10 سنوات رغم ما يعانيه من تهميش اقتصادي واجتماعي.

لكننا تعلّمنا من سنن التاريخ أن الثورات لا يمكن أن تصمد إذا لم يرافقها تقدّم وازدهار اقتصادي وتنموي ينعكس إيجابيا على حياة الناس.

كلّ هذه المعطيات لم تكن غائبة على المتربّصين بالثورة الذين انتقلوا من مواجهة الثورة بالوسائل التقليدية إلى اعتماد وسائل جديدة ترتكز على اختراق المؤسسات والتأثير في الانتخابات عبر دعم شخصيات معادية للثورة وأهدافها، يمكن ابتلاعها بكل سهولة عند وصولها إلى سدّة الحكم.

الشعبوية.. سلاح الثورة المضادّة الفتّاك

اختار الشعب التونسي في أول انتخابات حرة ونزيهة  أنصار الثورة وفوّضهم بأغلبية مريحة لحكم تونس بعد ما عانته من سيطرة العائلة الواحدة على الحكم لعقود من الزمن.

ولا يخفى علينا جميعا أن أول حكومة بعد الثورة لم تستطع السيطرة على الوضع رغم التفويض الشعبي بعد الانتخابات التي حظيت بإشادة دولية واسعة، حيث واجه الثوّار سيناريوهات متعددة من التعطيل واختلاق الأزمات إضافة إلى قلة خبرتهم السياسية في مواجهة الأزمات.

وهذا ما عجّل باستياء التونسيين من المنظومة الحاكمة بعد الثورة ودفعهم لانتخاب أنصار المنظومة القديمة سنة 2014 نتيجة القصف الإعلامي الذي انتهجته الثورة المضادة معوّلة في ذلك على عدم صبر الشعب على تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

لم تستطع الوجوه القديمة النجاح مجددا في تجربة الحكم رغم التحشيد الإعلامي الكبير، حيث أثبتت النتائج أن رهان الثورة المضادة وحلفائها الإقليميين على إعادة إنتاج المنظومة القديمة كان رهانا خاسرا بكلّ المقاييس بعد بلوغ التدهور الاقتصادي أقصاه وغياب الحلول وضعف مناخ الاستثمار، ممّا جعل جزءا كبيرا من التونسيين يفقدون الثقة في الثورة ومؤسسات الحكم المنتخبة.

فتحت كل هذه المعطيات الباب على مصراعيه أمام صعود الخطاب الشعبوي على الساحة السياسية وظهور عدة وجوه ليست لها خبرة سياسية أو ماض نضالي لتقدّم نفسها إلى الانتخابات وتعد التونسيين بأحلام وهمية لا يمكن تنزيلها على أرض الواقع.

يعتبر قيس سعيّد الرئيس المنتخب سنة 2019 أحد أبرز الوجوه المعروفة بالخطاب الشعبوي الذي يسعى إلى مخاطبة مشاعر الجماهير واستمالة عواطفهم والتبشير بتحسين أوضاعهم دون تقديم حلول منطقية قابلة للتطبيق.

سعى سعيّد منذ انتخابه رئيسا لتونس إلى التفرّد بخطاب شعبوي غريب يظهر من خلاله في ثوب الملاك المنقذ للشعب الغارق في الأزمات والنكبات.

هذا الخطاب الذي لا يعترف بالمؤسسات والقوانين والدستور ويسعى إلى إرساء حكم فردي عبر تغيير النظام السياسي وجد آذانا مصغية من محور الشرّ العربي الذي انطلق في توجيه وسائل إعلامه من أجل دعم رئيس الجمهورية وتشجيعه على المضي قدما في نسف مكتسبات الثورة والنظام الديمقراطي.

يبدو أن رهان القوى المعادية لثورات الربيع على الشعبوية في تونس كان خيارا مدروسا، حيث إن ما حدث يوم 25 جويلية (يوليو/تموز) 2021 خير دليل على اكتمال السيناريو الذي تم الإعداد له منذ فترة والمتمثل في الإجهاز على مكتسبات الثورة تحت شعارات الإنقاذ المضلّلة.

25 يوليو.. آخر حلقات التأزيم للانفراد بالسلطة

كان سيناريو ليلة 25 جويلية (يوليو/تموز) 2021 أمرا متوقعا لكلّ الذين يعلمون جيّدا خطر الشعبوية على الشعوب وفتكها بالنسيج الاجتماعي.

وسعْي قيس سعيّد المحموم إلى الانفراد بالسلطة منذ اليوم الأول كان أمرا واضحا وجليّا لكلّ من يتابع الشأن التونسي. أولى الخطوات كانت اعتماد سيناريو تأزيم الأوضاع وتقديم خطابات تحريضية على البرلمان وعدم التدخّل لحماية مجلس النواب من خطاب العربدة الذي انتهجته حليفته غير المباشرة في تأزيم الأوضاع عبير موسِي صنيعة نظام بن علي ووريثة المشروع الاستبدادي.

راهن سعيّد كثيرا على سخط التونسيين على المؤسسات التي قامت بعد الثورة وبذل ما في وسعه لاستهدافها واستنزافها ليظهر في ثوب البطل المنقذ، حيث أظهر حقدا كبيرا على كلّ المؤسسات الدستورية ولم يترك خطابا واحدا إلا واستهدفها بشكل مباشر حتى يهيئ لنفسه الأرضية الملائمة للإجهاز عليها.

مثّل يوم عيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية (يوليو/تموز) 2021 الحلقة الأخيرة في مسرحية التأزيم والتعطيل حيث اقتنص رئيس الجمهورية اللحظة المناسبة للإعلان عن تدابيره الاستثنائية.

وهدف من خلال التدابير إلى تجميع كلّ السلطات بيده، حيث تخلّص من رئيس الحكومة وقام بإقالته بطريقة تعسفية ثم أمر بغلق البرلمان وتجميد أنشطته، ليفتح لنفسه الباب على مصراعيه من أجل اختطاف السلطة تحت عنوان الاستثناء.

"مواطنون ضدّ الانقلاب".. البذرة الأولى لكسر حاجز الخوف

كانت الساعات الأولى بعد خطاب سعيد الذي أعلن فيه تربّعه على كل السلط وإخضاعه لكلّ المؤسسات كابوسا لأنصار الحرية والديمقراطية خاصّة بعد التوجيه الإعلامي الكبير الذي انتهجته وسائل الإعلام الموالية له والتي صنعت رأيا عامّا مؤيدا لإجراءاته وقامت بإظهاره في صورة "المنقذ".

لكن ذلك لم يدم طويلا حيث انطلقت بعض الأصوات الحرة في التنديد بالخرق الدستوري الجسيم الذي اقترفه رئيس الجمهورية منادية بضرورة التعالي على الخلافات السياسية والأيديولوجية من أجل المحافظة على المكتسب الديمقراطي الذي تتفاخر به تونس على مستوى العالم العربي.

ومثّلت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" مصدر إزعاج كبير لرئيس الجمهورية حيث تعمّدت السلطات في مرات عدّة التضييق على المبادرة وقياداتها باعتبار أنها حملة مواطنية خالية من التأطير الحزبي التقليدي.

دعت المبادرة التي تضمّ أساتذة جامعيين ومحامين ومثقفين في مختلف المجالات إضافة إلى عدّة قيادات سياسية إلى القيام بمسيرات وطنية سلمية وأعلنت عن خارطة طريقة تدعو بمقتضاها للعودة إلى النظام الدستوري وتنظيم انتخابات مبكرة.

قد لا تبدو هذه الأصوات قوية منذ البداية لكنها أصبحت اليوم بالأمر الواقع معطى سياسيا صلبا، قادرا على تجييش الشارع ومعارضة التوجهات التسلّطية للرئيس قيس سعيّد شرط أن تواصل احتجاجاتها بطريقة سلمية ومنظّمة، تعكس وعي التونسيين وقدرتهم على نيل مطالبهم بوسائل سلمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.