شعار قسم مدونات

قاسم عبده قاسم.. أستاذ المؤرخين وتلميذهم

المؤرخ والمترجم المصري قاسم عبده قاسم (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

في صيف عام 2015، كنت أتقلب متنعّما في مكتبة جامعتي المركزية؛ جامعة القاهرة، أبحث عن علاقات إمبراطورية المماليك بدول حوض النيل في العصر الإسلامي الوسيط، مستفيدا تارة من الإنتاج الرصين الصادر عن معهد الدراسات الأفريقية بذات الجامعة، وتارة أخرى من رسائل الماجستير والدكتوراه التي أنتجها تلاميذ الجامعة النجباء عبر عصورهم منذ أوائل القرن الـ20 وحتى ذلك الحين في كليات الآداب ودار العلوم والآثار وغيرها؛ فوقعت بين يدي دراسة ماجستير من قسم التاريخ في كلية الآداب جامعة القاهرة، بعنوان "نهر النيل وأثره في الحياة المصرية على عصر سلاطين المماليك"، إعداد الطالب قاسم عبده قاسم، وبإشراف العلامة المؤرخ الأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، ممهورة بتاريخ 1972.

أعلم بحكم تخصصي أن في ذلك التاريخ الذي أبصرت فيه هذه الدراسة النور -وهو تاريخ يقترب من نصف قرن- كانت المصادر الأصلية فيه لعصر سلاطين المماليك ومواردهم (1250- 1523م) لا تزال أغلبها حبيسة دار الكتب والوثائق المصرية والعربية والتركية، ولقد أثارني تاريخ التأليف والمناقشة، كما أثارني العنوان، ثم -قبلا وبعدا- أثارني التلميذ والأستاذ، فرحتُ أطلع على هذه الرسالة التي نُسخت على الآلة الكاتبة القديمة، تشم فيها رائحة الكد والتعب، وتتبع فيها مجهودا استقصائيا لطالب نجيب كان يخطو خطواته الأولى حينذاك في ميدان الدراسات العليا. ولقد أحاط الطالب بالمصادر المخطوطة قبل المطبوعة، وسعى سعيه وهو موقن بأن النتيجة هي الحصول على الدرجة، وقبلها برسوخ قدمه في ميدان التاريخ؛ ذلك العلم الواسع، بحر الرمال الأعظم الذي تُرسم فيه الحوادث فلا يكاد يظفر بها قبل أن يغدو بها الريح إلا مؤرخا فذا، ومحققا متأنيا.

لقد عرفت الدكتور قاسم عبده قاسم قبل ذلك التاريخ الذي اطلعت فيه على رسالته التي أفادتني بلا شك في رسالتي للماجستير، عرفته علما من أعلام تاريخ العصور الإسلامية الوسيطة، ورائدا من رواد عصر الحروب الصليبية، وشيخا مؤسسا لمدرسة تاريخية مؤثرة في كلية الآداب جامعة الزقازيق التي أخرجت -ولا تزال- روادا في هذا المجال، فقد أتقن قاسم اللغة الإنجليزية بجوار العربية، وكان مطلعا خبيرا على ما يكتبه المؤرخون الغربيون عن حضارتهم وتاريخهم فضلا عن تاريخ العلاقات بين الغرب والشرق، واقتربت ترجماته إلى الـ20 كتابا مترجما في ميادين معرفية وتاريخية متنوعة.

وإذا كان الدكتور قاسم -رحمه الله- قد أفاد المكتبة العربية بسلسلة متنوعة عن عصور الأيوبيين والمماليك وعصر الحروب الصليبية؛ فإن هذه الأخيرة قد أخذت بلبّه، وتناولها بصور مختلفة في العديد من مؤلفاته، ومحاضراته، ولقاءاته الإعلامية؛ ولعل أبرزها كتابه "ماهية الحروب الصليبية" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عام 1990. ويؤكد قاسم أن مصطلح "الحروب الصليبية" كان -ولا يزال- وافدا لا يعبر بدقة عن الثقافة العربية الإسلامية التي التقف مؤرخوها المعاصرون هذا المصطلح دون مناقشة عميقة له وهو ما يدلل -وفق تصوره- عن "حالة من التبعية الثقافية والإسلامية والفكرية التي نعيشها، ولا يعني هذا أننا ندعو إلى نوع من الخصام الفكري والعلمي مع الحضارة المعاصرة بكل منجزاتها، فذلك أبعد ما يكون من موقفنا الفكري، ولكننا نريد أن ننبه إلى أننا ما زلنا نستهلك النتاج الفكري والعقلي للآخرين" [1].

وقد تناول قاسم عبده قاسم ظاهرة "الحروب الصليبية" من كل جوانبها السياسية والتاريخية والاقتصادية والدينية والعرقية التي أفرزتها ولم يرض أن يقف على جانب واحد، أو سبب محدّد كما يفعل بعض المؤرخين، وإنما جعل ارتباط هذه العناصر مجتمعة كلوحة يرسمها فنان ببراعة وتناسق؛ هي -في مجملها غير منقوصة- الدوافع التي جعلت الشرق الإسلامي يستقبل هذه الحملات التي بدأت منذ حملة العامة وحتى نهاية هذه الحملات ودحرها طوال قرنين من الزمن، كما لم يغفل أنها كانت "صراعا بين حضارتين بكل ما يحمله هذا الصراع من تيارات واتجاهات" [2].

ولئن اهتم قاسم بالنيل والمماليك والأيوبيين والأوضاع الاجتماعية التي ارتبط المصريون فيها بالنيل منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، ورصد المجاعات والأوبئة التي أصابت المصريين طوال أكثر من قرنين ونصف عند انخفاض أو زيادة منسوب النيل، وشرّح العلاقة الوثيقة بين مصر والنيل تاريخيا وسوسيولوجيا من خلال مرآة التاريخ المملوكي، وهي لقطة تاريخية يمكن القياس عليها في العصور التي سبقتها ولحقتها بل وربما حتى يومنا هذا في ظل النقاش والجدال المحتدم حول قضية سد النهضة وربما وجود دور لليهود في هذه القضية؛ فإن قاسم عبده قاسم أيضا لم يكن ممن انقطع عن عالمه المعاصر وراح إلى صومعة التاريخ ناسيا أو متناسيا ارتباط التاريخ وأثره في مسيرة الواقع، فكتب عام 1993 كتابه الشهير الذي أثار ضجة في مصر بل وفي أميركا وأوروبا وإسرائيل وهو "اليهود في مصر" منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية عصر المماليك، والذي فنّد فيه الدعاية الصهيونية التي تعتمد على تزوير التاريخ من خلال ترويج خرافة "تمايز اليهود الحضاري على أساس من الاختلاف الديني"، وقد تساءل في مقدمة الكتاب سؤالا جوهريا قام عليه عمود الكتاب كله، فـ"هل يمكن لطائفة أو فئة من فئات الشعب أن تدعي أنها صاحبة حضارة مستقلة لمجرد اختلافها في الدين عن غالبية الناس؟!". وقد قطع بالأدلة التاريخية من مصادر التاريخ الإسلامي ووثائقه بل وبالاتكاء على وثائق الجنيزا اليهودية أن المجتمع المصري لم يعزل اليهود في "غيتو" سكني أو ثقافي، وأن السلطات الحكومية وعامة المصريين عاملوهم باعتبارهم يهودا من أهل الذمة لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ولم يفرقوا بين اليهود "القرائين" أو "الربانيين" أو السامرة".

وبسبب هذه الحقائق التاريخية القاطعة التي نفت كذب الدعاية الصهيونية؛ لاقى الكتاب في طبعته الأولى ردود فعل عنيفة في الأوساط اليهودية، بل ولقد تعرض لهجوم عنيف في بعض المجلات الأكاديمية بالولايات المتحدة وبريطانيا، ولعل هذه الضجة جعلته فيما بعد يتناول قضية "إعادة قراءة التاريخ" وهو عنوان كتاب بثّ فيه تأملاته حول القراءة الشعبية والدينية والروائية والسينمائية للتاريخ، بل ورؤية الآخر من خلال التاريخ؛ تنظيرا وتطبيقا، وقد كان بصيرا بأن التاريخ -إنتاجا وقراءة- لا يمكن أن يخضع لقراءة واحدة أبدا.

ثم راح يتتبع جذور فكرة "تاريخ التاريخ عند المسلمين" أو بصورة أدق فكرة "التاريخ عند المسلمين"، وهو كتابه الصادر في عام 2001، وفيه يرصد تأثير الأصول الإسلامية وعلى رأسها القرآن الكريم في فكرة "التاريخ"، ودوره في المجتمع الإسلامي الذي قام على المحاور التربوية والروحية، وهي المحاور التي حرص على أن يرصد لها نماذج تطبيقية من خلال مؤرخي عصر سلاطين المماليك.

وكما اهتم الدكتور قاسم بالتأليف في ميدان العصور الإسلامية الوسيطة، وصب اهتمام نشاطه على مصر الأيوبية والمملوكية وظاهرة الحروب الصليبية، فقد أمد المكتبة العربية بالعديد من الترجمات الرائعة التي ينم اختيارها عن رؤية تاريخية متقدمة لهذا الراحل، على رأسها إلقاء مزيد من الضوء على الظاهرة الصليبية من خلال بعض مصادرها الأصيلة التي رأى ضرورة نقلها إلى العربية.

وعلى رأس تلك الترجمات؛ "تاريخ الحملة إلى بيت المقدس 1095-1127م" تأليف المؤرخ الصليبي المعاصر للحروب الصليبية فوشيه الشارتري، وفي مقدمته لهذه الترجمة يؤكد قاسم أن "الشخصية الإسلامية التي صورتها كتابات مؤرخي الحملة الصليبية الأولى ونصوص الخطبة التي أوردوها على لسان إربان الثاني في (مدينة) كليرمون عام 1095م تبدو شخصية مثقلة بكل الشرور والخطايا والآثام التي يمكن أن يحملها بشر". وهي خلاصة أراد بها تصدير الترجمة لئلا يذوب القارئ مع المؤلف دون أن يدرك الأبعاد الفكرية والعقدية المسمومة التي كُتب في ظلها هذا التاريخ بعين حاقدة على كل ما هو مسلم.

لا يمكن أن نختزل الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم (1942-2021م) في هذه الخواطر السريعة التي أردتُ أن نكتشفه فيها من خلال بعض كتبه ومؤلفاته وبعض من ترجماته، بيد أنني حريص على أن أختم هذه الخاطرة بأمرين أساسيين؛ الأول أن الدكتور قاسم هو تلميذ مدرسة تاريخية مصرية عريقة حمل لواءها في جامعة القاهرة أعلام كبار على رأسهم العلامتين الكبيرين محمد مصطفى زيادة (1894-1961م) وتلميذه النجيب سعيد عبد الفتاح عاشور (1922-2009م) وقاسم هو ثمرة غرسهما الذي أثمر وأتى ينعه وحصاده، وهي مدرسة أكاديمية رصينة انتمت إلى الحضارة العربية الإسلامية قلبا وقالبا مع جدّة وأصالة، ويتجلى ذلك في حرصهم على تحقيق المصادر التاريخية المصرية في عصورها الإسلامية، والاطلاع في الوقت عينه على الأبحاث الغربية وترجمتها دون الذوبان فيها، والتسليم التام بآرائها وهو ما نجده من نقد تاريخي رصين عند ثلاثتهم.

والأمر الآخر الذي حرص عليه أستاذ المؤرخين وتلميذهم -رحمه الله- أنه عكف على إنشاء دار نشر مؤسسة "عين" لتكون بوابة وعينا لكل باحث نابغ من باحثي التاريخ من المصريين وغيرهم لكي ينشروا أبحاثهم التي ناقشوها في الماجستير والدكتوراه وما بعدها؛ حتى لا تكون حبيسة رفوف المكتبات الجامعية والمؤسسية البعيدة عن يد وعين القارئ غير المتخصص، ومن خلال هذه الدار أدرك قاسم أن مهمة المؤرخ الصادق لا تتوقف عند إصدار المعرفة التاريخية الرصينة فقط، بل ويجب عليه ضرورة تسويقها ونشرها ومساعدة الشباب المؤرخين والباحثين حتى يتعرف إليهم الجميع، ويفيدوا منهم؛ فرحم الله قاسما، وجعله وشيوخه من أهل الجنة.

 

[1] ماهية الحروب الصليبية ص197.
[2] قاسم عبده قاسم: الاستيطان الصليبي في فلسطين ص5.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.