شعار قسم مدونات

حكاية العودة إلى مخيم اليرموك.. العدم المطلق

صورة رقم 3: بعثة الأمم المتحدة تدخل مخيم اليرموك / الصورة عائدة للكاتبة وسمحت بنشرها
حياة اللاجئ الفلسطيني في المخيم تعني دهرًا من الشقاء والتعب والجهد (مواقع التواصل)

يحلم الكثير من المهجّرين الفلسطينيين في سوريا، ومن مخيم اليرموك تحديدا، بالعودة إلى مخيمهم، إلى مساكنهم وبيئتهم التي كانت وطنا دافئا بذكريات عمر اللجوء من فلسطين، حملوا منها مفاتيح الديار بعد النكبة، و"كواشين" الأراضي، أودعوها في خزائنهم التي دمرتها طائرات الأسد، و"عفشت" عصاباته المختلفة ما بقي من ذكريات ومن أثر المنازل التي تركها المهجّرون.

سرد مخيم اليرموك حكاية طويلة بفجاعتها، وبحجم كل فلسطين التي ينتسب إلى قراها ومدنها من هُجّرَ من المخيم بعد قصفه بطائرات الأسد التي استهدفت المساجد ومدارس الأونروا والمشافي. ومن اعتقل من اليرموك وقتل تحت التعذيب في فرع فلسطين غير مشمول بعودة جثمانه، أو بالكشف عن مصير آلاف المعتقلين من اليرموك، المهم في الصورة الفلسطينية في تلفزيون الأسد، تمجيد بطولات جيش "تعفيشه" على إنجازه المظفر.

قبل 3 أعوام في مايو/أيار 2018، شاهد وتابع معظم أهالي المخيم عملية النهب المنظم التي قام به جيش الأسد واستمرت أعمال السرقة والنهب والتحطيم للمنازل، وتقاسم فيه قادة الأجهزة الأمنية قطاعات المنازل في شارع الـ15 ولوبية واليرموك، بحسب أهمية المنازل وأصحابها الميسورين. لم يتركوا شيئا لم يحملوه معهم في شاحنات ضخمة أحضرها النظام لبوابات المخيم وحاراته وأزقته، قاموا بتقليع حتى بلاط ورخام أرضيات المنازل، لم يبق صنبور ماء في آلاف المنازل، ولم يبق كبل كهرباء ولا أي باب أو نافذة أو خزان ماء، تم سحب كابلات الكهرباء وتدمير أبواب ونوافذ المنازل التي لم تصبها البراميل المتفجرة، سرقوا حتى حديد أسقف المنازل المتهالكة.

لم يبق شيء سوى الركام، وفوقه تم إشعال الحرائق بما تبقى من منازل. إعادة بيوت اللاجئين إلى العصر ما قبل الحجري هو ما تم، وكل مندوبي الفصائل الفلسطينية في دمشق كانوا يتابعون مشهد النهب والتدمير الذي تم تصويره وبث مشاهده. في المشهد الرسمي لتلفزيون النظام كان ظهور بعض مندوبي النظام في الفرع الفلسطيني يدلون فيه بتصريحات طنانة عن هزيمة "العصابات" وتحرير المخيم وتمجيد الأسد وجيشه المخلص. انتهى مشهد "التحرير" منذ 3 أعوام، ليعود التصريح الفلسطيني الرسمي محتفيا بعودة  لفظية لسكان مخيم اليرموك إلى مخيمهم المحطم الخالي من أبسط مقومات الحياة البشرية، كأحد الإنجازات الكبرى للأسد بحسب وصف الناطق الإعلامي للقيادة العامة الفلسطينية لتلفزيون النظام.

ترويج الوهم للبشر لا يمكنه بأي حال من الأحوال إعادتهم لمخيمهم المدمر أساسا، فما الذي سيفعله من فقد بيته بالكامل وفقد أسرته بقصف النظام للمخيم الذي دمرت كل بنيته التحتية من الماء والكهرباء والصرف الصحي وضربت بنيته الاجتماعية. ومن يعش خارج المخيم، فإنه يعيش بشكل ذليل ومحتقر من نظام يطلب منه تصريحا أمنيا لكل داخل وخارج لتفقد منزله. المشكلة ليست بأحلام الناس البسطاء في العودة لمنازلهم وممتلكاتهم، المشكلة في من يسوق أوهام النظام ويطلب من الضحايا أنفسهم مسح جرائم النظام في مخيم اليرموك بأيديهم. أي مطلوب من الضحايا أن تقوم بكنس ما خلفته براميل الأسد المتفجرة وصواريخه من ركام في الشوارع والبيوت في اليرموك، وأن تقوم بإزالتها بأيديها وعلى نفقتها. هذا السلوك العقابي يذكرنا بالسلوك الصهيوني نحو أبناء فلسطين الذين يطلب منهم هدم بيوتهم بأيديهم، بذريعة عدم التصريح الصهيوني للبناء.

الأحلام هي الأحلام، والواقع مختلف تماما لما تبقى من أثر في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وتحديدا في اليرموك. البيئة الحاضنة للاجئين تم سحقها كليا، البيئة الاجتماعية تم تدميرها وتهجيرها وتشتيتها، والبنية الاقتصادية لسكان المخيم تم إفقارها بشكل مخيف ومذل، كما هي بيئة السوريين التي حطمها النظام في كل المناطق التي استهدفها، ومن يتوهم أن النظام عامل اللاجئين في اليرموك بشكل مختلف عما تعرضت له القصير وأحياء الغوطة وداريا ودرعا وحلب وحمص، فلينظر إلى شاحنات ودراجات جيش التعفيش وهي تحمل "برادات وغسالات وصحون وصور وذكريات اللاجئين"، وليدقق في أسماء وصور القتلى تحت التعذيب في فروعه الأمنية من نساء ورجال أبناء فلسطين.

من دمرَ وهجرَ أبناء فلسطين من مخيماتهم، ومن مارس ويمارس سياسة الاعتقال والقتل تحت التعذيب بفرع يحمل اسم فلسطين، لا يمكنه أن يفكر بشكل إنساني وآدمي وبشري تجاه كل السكان. ومن سعى لترويج هذه الصورة لا يمكنه أن يكون حاميا لأي شيء يتعلق بفلسطين وشعاراتها وإنسانها المعذب. في اليرموك كل الحكاية في المشهد القائم غير القابل للمحو والتزوير، حتى لو اجتمع من اجتمع في شارع اليرموك، ليقول للمهجرين تعالوا لنزيل آثار الفاجعة ولنبارك للسفاح على سفح قاسيون نصره المؤزر على "كواشين" دياركم وجثث أبنائكم.

حياة اللاجئ الفلسطيني في المخيم تعني دهرا من شقاء وتعب وجهد، انتظر فيها 6 عقود ليرى المشهد الأخير قبل 10 أعوام للمخيم على ما كان عليه، فمن أين له عمر آخر يعيد فيه ما فقد تحت رحمة الجلاد، من أين له أن يستعيد نسيجه الاجتماعي، أحبته وجيرانه وأهله، وقد أصابهم انفجار التشظي؟

إنه العدم المطلق للرهان على سفاح الممانعة ليعيد بناء "حاضنة" زاحفة عند قدميه، وليعيد تجارة لن تعود وقد بارت كل شعاراتها عند مدن فلسطين المسجلة على جدران المخيم المحطم ببراميل ومدفعية الأسد. مخيم اليرموك لن يعود بإرثه وتاريخه وفعله وتأثيره بعد أن حظي الأسد بانتصارٍ على إرث كل سوريا، والمخيم ليس استثناء إلا في تحطيم فكرة الحرية التي عاش أبناء فلسطين على حلم العودة إليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.