شعار قسم مدونات

الأميركيون وسؤال الثقة الاجتماعية

Boogaloo Boys, Tom Jeffy, of Washington, D.C., from left, Duncan Lemp, of Georgetown, Texas, and "Shifty", of Dallas, talk with a local resident who wanted to know why they were at the Black Lives Matter rally in Austin, Texas, U.S., August 1, 2020. The men said they were there to protect the marchers and their free speech rights. Picture taken August 1, 2020. REUTERS/Nuri Vallbona
ترتكز الولايات المتحدة على شبكة كثيفة من المنظمات الطوعية أكثر مما لدى العديد من المجتمعات الغربية الأخرى، مثل الكنائس، والجمعيات المهنية (الجزيرة)

إن القوة الكامنة التي يجابه بها أي مجتمع أعباء الحياة، من تطوير الأداء الذاتي، أو تمتين الروابط الاجتماعية، أو طريقة التعامل مع الشعوب الأخرى، هي مجموعة من الجوانب المرتبطة التي تسمى في البحث الأكاديمي بـ"رأس المال الاجتماعي" (Social Capital)، حيث شكل هذا المصطلح جزءا من نقاش العلماء والباحثين في فضاءات المجتمع المدني، وفي طبيعة ارتباطها به، على اعتبار أن رأس المال الاجتماعي يستند في أساسه إلى رصيد اجتماعي قائم على التضامن بين الناس، لكنه كثيرا ما تعرض إلى انتكاسات (عبد الوهاب الأفندي، 2016)، حتى وصل إلى درجة التفكك في بعض المجتمعات.

ويمكننا مقاربة ذلك مع ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية خلال العقدين الماضيين. وبناء على ما سبق، نحاول في ما يلي إعطاء صورة واضحة عن نظريات رأس المال الاجتماعي، والإجابة عن بعض الأسئلة الاجتماعية والثقافية، وخاصة سؤال الثقة في المجتمع الأميركي.

فما مفهوم رأس المال الاجتماعي؟ وكيف يمكن رصده في السياق الأميركي؟ وهل طرأ تغير أو تراجع في مؤشراته داخل المجتمع الأميركي؟ وإن كان كذلك، فما عوامل ذلك التراجع (التفكك) في رأس المال الاجتماعي في الولايات المتحدة الأميركية؟

أولا: مفهوم رأس المال الاجتماعي

يعود مفهوم رأس المال الاجتماعي إلى تاريخ الفكر السوسيولجي، وهو آت من مجموع النظريات الاجتماعية التي حاولت أن تفهم خصائص الاجتماع البشري، بدءا من نظرية "العصبية" في علم العمران عند ابن خلدون، حتى نظرية "العقد الاجتماعي" عند هوبز.

ويعتقد أن المرشد التربوي الأميركي ليدا هانيفان (L. Hanifan) كان أول من استخدم مفهوم رأس المال الاجتماعي سنة 1916، ووصف به مجموع القيم الأخلاقية الموجودة في الحياة اليومية، من حسن النية، والتعاطف، والاتصال الاجتماعي بين الأفراد، وهي بنظره عناصر تشاركية بين الناس في وحدة اجتماعية قوية (نادية أبو زاهر، 2013، 31-32).

ويعرف فرانسيسكو فوكوياما رأس المال الاجتماعي بأنه قدرة تنشأ من انتشار الثقة في المجتمع، أو في أجزاء معينة منه. ويمكن أن يتجسد في أصغر مجموعة اجتماعية، وهي الأسرة، كما يوجد في أكبر المجموعات وهي الأمة. ويختلف رأس المال الاجتماعي عن الأشكال الأخرى لرأس المال البشري، من حيث تكونه وانتشاره عبر آليات ثقافية، مثل الدين، والعادات التاريخية، وقيم مشتركة مادية وأخلاقية (فوكوياما، 1998، 42-43).

ثانيا: واقع رأس المال الاجتماعي في الولايات المتحدة

  • الأميركيون، وسؤال الثقة الاجتماعية:

في واقع الأمر، ترتكز الولايات المتحدة على شبكة كثيفة من المنظمات الطوعية أكثر مما لدى العديد من المجتمعات الغربية الأخرى، مثل الكنائس، والجمعيات المهنية، والمؤسسات الخيرية، والمدارس الخاصة، والمستشفيات، وبالطبع لديها قطاع أعمال واسع جدا.

وكان أول من تحدث عن هذه الركائز الاجتماعية المعقدة في المجتمع الأميركي الرحالة الفرنسي ألكسيس دي توكفيل (Tocqueville)، في أثناء زيارة قام بها إلى أميركا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ووفقا لتوكفيل إن "الأميركيين من كل الأعمار والميول، يؤسسون جمعيات باستمرار، وليس لديهم شركات تجارية وصناعية، يشارك فيها الجميع فحسب، بل لديهم ألف نوع آخر من المؤسسات الدينية والأخلاقية، أو الجدية، أو العقيمة" (Robert D. Putnam, 1995, 65).

ورغم ذلك، فإن التوازن بين النزعة الفردية والروح الجماعية اختل بشكل كبير في المجتمع الأميركي في السنوات الأخيرة الماضية؛ فالمجموعات الأخلاقية التي تشكل منها المجتمع المدني الأميركي، بدءا بالعائلة، ومرورا بالأحياء، والكنائس، وانتهاء بأماكن العمل، تعرضت للتدهور والتفكك حسب فوكوياما (فوكوياما، المرجع نفسه، 370).

وكذلك توحي عدة مؤشرات بأن الترابط الاجتماعي العام تراجع بشكل واضح، وأن معدلات الثقة انخفضت إلى أدنى مستوى لها. فما مؤشرات هذا التراجع (التفكك) في رأس المال الاجتماعي الأميركي؟

مؤشرات تفكك رأس المال الاجتماعي الأميركي

اهتمت معظم الدراسات الحديثة في دراسة إشكالية الثقة، ويرجع ذلك إلى تزايد الشك في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حيث أظهرت المعطيات تراجعا كبيرا في الثقة الاجتماعية في أميركا، وكان لهذا التراجع انعكاسات مهمة على الديمقراطية، وانعكاسات أخرى على الاقتصاد، فبدأت الولايات المتحدة بدفع مبالغ أكبر مما تدفعه الدول الغربية الأخرى من أجل تأمين الحماية الشرطية، وهي التي تضع أكثر من 1% من مجموع سكانها خلف القضبان سنويا، كما تدفع مبالغ أكبر مما تدفعه دول أوروبا الغربية واليابان إلى المحامين والحقوقيين فيها؛ حتى يتسنى لمواطنيها مقاضاة بعضهم (فوكوياما، المرجع نفسه، 24-25).

وقد أعد بوتنام (Putnam) بيانات تشير إلى حدوث تدهور مذهل في الترابط الاجتماعي الأميركي منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين؛ فمنذ الخمسينيات انخفضت معدلات العضوية في الجمعيات الطوعية، كما قلت أعداد المنتسبين إلى النقابات العمالية من 32.5% سنة 1960 إلى 15.8% عام 1993، وكذلك فقدت عديد من المنظمات الأخوية مثل "ليونز" (lions)، و"إيلكس" (Elks)، و"جايسيز" (Jaycees) أكثر من نصف أعضائها، وطرأت انخفاضات مماثلة في منظمات مثل الكشافة، والصليب الأحمر الأميركي، وغيرها.

وفي إحدى الدراسات السوسيولجية، سئل المشارك في الدراسة عن عدد المرات التي يقضي فيها أمسية اجتماعية مع أحد جيرانه، فكانت الإجابة عن السؤال: "أكثر من مرة واحدة في السنة"؛ بحيث انخفضت من 72% سنة 1960، إلى 61% سنة 1993. وفي دراسة أخرى، سئل أميركيون عما إذا كانوا يشعرون بأنه يمكن الوثوق بجميع الأفراد، فكان أن هبط عدد الذين ردوا بالإيجاب من 58% سنة 1960، إلى 37% سنة 1993 (Putnam, 38 -40).

ولئن كان الأمر كذلك، فإن عامل الثقة الاجتماعية تراجع بشكل كبير، من خلال ملاحظة ارتفاع معدلات ارتكاب الجريمة، حيث سجلت أميركا ارتفاعا كبيرا أكثر من أي بلد متقدم. وقد استطاع الأثرياء حماية أنفسهم من آثارها المباشرة بالانتقال من الضواحي الشعبية إلى الضواحي الغنية، أو إحاطة بيوتهم ومنازلهم بأسوار تحميهم. غير أن الآثار غير المباشرة للجريمة كانت أكثر تدميرا للإحساس بالروح الجماعية من تلك المباشرة، فقد وقعت حادثة في ولاية لويزيانا سنة 1992، حين أقدم رجل أميركي اسمه رودني بيرز (Rodney Pairs) على قتل الطالب الياباني يوشيهيرو هانوري (Yoshihiro Hattori)، فأطلق عليه النار عندما توقف خطأ قرب باب منزله، وكان هانوري في طريقه لحضور حفلة خاصة. وعلى الرغم من أن الحادثة حازت اهتماما كبيرا في اليابان وأميركا، فإن القضية الفعلية كانت فقدان الثقة في المجتمع؛ فصاحب المنزل يظهر الارتياب في التعامل مع العالم الخارجي، لدرجة أنه مستعد لإطلاق الرصاص على فتى يعيش في الحي نفسه. وفي مثال آخر على تراجع الثقة، أنه في السنوات الأخيرة توقفت أكثر الشركات الأميركية عن كتابة رسائل توصية لموظفيها الذين يودون الانتقال إلى وظائف أخرى؛ لأن الموظفين الذين لم تعجبهم نوعية الرسائل أقاموا دعاوى على أصحاب العمل وكسبوها، فكانت سببا لانعدام الثقة بين الشركات وموظفيها السابقين (فرانسيس فوكوياما، المرجع نفسه، 374 ـــ 374).

عوامل تراجع (تفكك) رأس المال الاجتماعي الأميركي

ورغم وجود نزعة اجتماعية أميركية تدفع للعمل في المؤسسات التطوعية، وفي تجمعات مختلفة، فإنها اليوم تعاني الضعف في نواحي عدة، وهي تشكل عوامل تراجعها وتفككها:

1- التدهور الكبير في الحياة الأسرية، التي تمثل أصغر حلقة للترابط الاجتماعي؛ نتيجة الارتفاع الحاد في معدلات الطلاق، وزيادة أعداد الأسر التي هجرها الآباء أو الأمهات. وإذا ما خرجنا من نطاق الأسرة، نجد تفككا أكثر في التجمعات الأوسع، مثل الأحياء والكنائس وأماكن العمل. ولكن أبرز تدهور في الحياة الاجتماعية الأميركية، هو تفكك العائلة، فقد كانت له عواقب اقتصادية، تمثلت في ارتفاع معدلات الفقر، لارتباطه بوجود الأم كونها المعيل الوحيد للأسرة.

وقد رأى بوتنام أن زيادة فعالية المرأة العاملة في سوق العمل كانت سببا لانخفاض رأس المال الاجتماعي؛ حيث انتقلت الملايين من النساء الأميركيات من المنزل إلى العمل المأجور، وكان ذلك أحد الأسباب في زيادة متوسط ساعات العمل الأسبوعية. وأدت هذه الحركة النسائية إلى خفض الطاقة اللازمة لبناء رأس المال الاجتماعي؛ حيث سجل أكبر انخفاض لمشاركة المرأة منذ سنة 1970، وامتنع كثير منهن عن دخول نقابات أو تجمعات، مثل رابطة الناخبات، واتحاد نوادي المرأة، أو الصليب الأحمر، وهو ما أدى حسب بوتنام، إلى تآكل في رأس المال الاجتماعي الأميركي (Putman, pp.73-74).

2- ثورة الحقوق في أميركا (الإصلاحات الليبرالية الحديثة): ففي سنة 1965 صدر قانون الحقوق المدنية، وقانون الانتخاب، فقدمت هذه التغييرات الدستورية أساسا أخلاقيا وسياسيا، وهو ما رسخ جذور الفردية، وأثر على شبكات التواصل الاجتماعي. وفي الواقع أدى إلى إضعاف قوة الجماعات كلها؛ فأصبحت المدن أقل قدرة في السيطرة على المواد الإباحية، ومنعت هيئات الإسكان العام من حرمان المستأجرين من ذوي الاتجاهات الإجرامية أو المدمنين على المخدرات من الحصول على السكن (فرانسيس فوكوياما، المرجع السابق، 378).

كما زادت حالات اللجوء إلى المحاكم باعتبارها وسيلة لتسوية النزاعات الدينية، وهو الذي أضعف قدرة التجمعات الكبيرة، وغدت بذلك الولايات المتحدة الأميركية تمثل صورة متناقضة لمجتمع يعيش على ثروة ضخمة من رأس المال الاجتماعي جرى تكديسها سابقا، والذي يعطيه حياة حافلة وحركية، في الوقت الذي يظهر فيه تطرفا في انعدام الثقة، وتفشي الفردية التي تميل إلى عزل أعضاء المجتمع عن بعضهم بعضا (فرانسيس فوكوياما، المرجع نفسه، 71).

3- أسهمت بعض الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة في انهيار الثقة وتراجع رأس المال الاجتماعي الأميركي؛ فالثورة الصناعية دمرت النقابات المهنية والمدن الصغيرة، والعائلات الممتدة، والصناعات المنزلية، والمجتمعات الزراعية في أواخر القرن الماضي، كما كان لإزالة الأحياء الشعبية دور في تدمير كثير من الشبكات الاجتماعية التي كانت قائمة في الأحياء الفقيرة، حيث حلت مكانها وحدات سكنية عامة ذات طوابق عديدة تفتقر إلى هوية مميزة، وبالرغم من أن المنظومات السكانية القديمة غالبا ما تكون قائمة على العرق أو الدين، إلا أنها تشكل مصدرا لتنامي الروح الجماعية بين الأميركيين في الطبقة الوسطى والفقيرة (فرانسيس فوكوياما، المرجع نفسه، 71).

خاتمة

أدى التفكك المستمر في الروابط الاجتماعية -ابتداء من العائلات والأحياء إلى مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية، والمؤسسات الاقتصادية الأميركية، والناتج بشكل أو بآخر عن عامل انعدام الثقة في المجتمع الأميركي- إلى تفكك متزايد في رأس المال الاجتماعي الأميركي. وهو ما دفع باحثون كثر إلى ابتكار نظريات للتواصل الاجتماعي أكثر متانة من الصلات العائلية التقليدية، وأصبح بإمكان الأشخاص الذين يثق بعضهم ببعض، ويجيدون العمل معا التكيف مع ظروف جديدة، يوازن فيها الفرد الأميركي بين فرديته المحمية بالدستور وحقوقه المدنية ودوره الاجتماعي، واحترام إرادة الآخرين (كما طرح ذلك فوكوياما في نظرياته)، وهو من شأنه أي يكون له دور في إعادة الثقة، وتعزيز قوة المجتمع المدني من جديد. غير أن العوامل السياسية والإعلامية لم تساعد على ذلك، خاصة بعد استلام دونالد ترامب للسلطة وما سببه ذلك من تزايد الخلافات بين النخب السياسية والحزبين المسيطرين على مقاليد الأمور في الإدارة الأميركية، وأواخر عهده الذي خلف صدمة كبيرة نتيجة اتهامه الديمقراطيين بتزوير الانتخابات وما خلفه من هجوم جمهوره على الكونغرس من آثار سلبية على الوضعية الاجتماعية والمؤسسية في الولايات المتحدة الأميركية. فقد هز عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وتصريحاته العنصرية -وكذلك طموحات أنصاره- المجتمع الأميركي، وهو ما قاد لزوبعة يمينية "متطرفة" أعادت تعريف أدوار الفاعلين الأميركيين ومكانة الأفراد والعرقيات في المجتمع، والبحث من جديد في مدى تأثير القوانين في دولة عظمى تمتلك أقوى المؤسسات، ويتجدد فيها التنافس والصراع بين الحين والآخر.

مراجع الدراسة

  • عبد الوهاب الأفندي. (2 فبراير 2016). أسئلة في رأس المال الاجتماعي وعلاقته بالمجتمع المدني، محاضرة في معهد الدوحة للدراسات العليا، الدوحة، قطر.
  • فرانسيس فوكوياما. (1998). الثقة- الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار، ترجمة: مركز الإمارات للدراسات والبحوث، ط1، مركز الإمارات للدراسات والبحوث، أبو ظبي، الإمارات.
  • نادية أبو زاهر. (2013). دور النخبة السياسية الفلسطينية في رأس تكوين رأس المال الاجتماعي، ط1، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت.
  • Robert D. Putnam. (1995). “Bowling Alone, “Journal of Democracy, Vol.6.
  • Putnam, “Social Capital in the Creation of Human Capital.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.